بين نهرالقاش وجبل التاكا تنام كسلا
أول ما يكحِّل العين وهي تشارف على مدينة كسلا ، سحابةٌ ترسل أذيالها على نواصي جبل التاكا الثلاث ، لا تبرح مكانها وتظل تدور حولها وهي تغمض عينيها خجلا ، وتجود بدمعها أمطاراً ناعمة تغسل حجارة الجبل الملساء فتكتب للعشاق صفحة غرامٍ أخرى ، وهم يخطون في وداعةٍ عبر مساربه الكثيرة لبلوغ إحدى قممه ، وجبل التاكا أكثر جبل سوداني رسم لنفسه هالة الحب والعشق في نفوس زائريه – يقاسمه جبل مرة وجبل البركل بعض العبق – في بلد تفاخر بسهولها الممتدة كأوراق ( الفلسكاب ) البيضاء تنتظر فقط أقلام الترابلة لكتابة الجهد والعرق حتى يوقِّع الماء عليها مزارعاً تسد عين الشمس وشتولاً تخيط المساحات بإبر الخضرة والعبير ، كان الصبية قديما حين كانت المدارس ، وقبل أن ترحل مع مواسم الأمل ، يحضرون ( فتايل ) الدواء الفارغة لصرف الحبر يوم السبت من كل أسبوع – على أيام قلم الشطَّافة - والآن يحضر المزارعون ذات الفتايل لصرف ( الجزلين ) لتحبير تلك الأوراق الممتدة لذا فإن كتابة الترابلة لا تزال على رأس الورقة فقط ، وما بين الكلمة والكلمة ينفضون القلم عدة مرات في زمنٍ مزَّقتنا فيه الفواتير - وأهل كسلا يعرفون أن من تقوده قدماه إلى إحدى القمم الثلاث ، وأكثرها دنوُّاً من الأرض ويشرب من نبع (توتيل) الذي يخالف قوانين الفصول ويظل كما يشتهيه الزائرون ، يتفجّر عيوناً تغسل الحجارة ، وناعم الرمل ، والخواطر المسروقة بروعة المشهد ، لا بدّ وأن يعود إليه ثانيةً ، وكثيرٌ من الشواهد تؤيد أساطيرهم هذه بعودة الزوَّار ولو بعد حين ، يبدو الجبل في ثلاث قممٍ سامقة تتسابق فيما بينها لتمنح الوجود لوحةً نادرة الجمال ، والجبل كله عبارة عن صخرةٍ كبيرة ، لامعة ، مغسولة ، تتخلل تعرجاتها شجيرات صغيرة ، يبدو الندى على أوراقها كسبحةٍ نثرتها الشمس على هامة الجبل البيضاء وسالت بغير نظام على وجوه الشجيرات وسكنت ، لا تكاد تغيب طيلة أشهر السنة وتتجمل في الخريف مع تفتق الزهور ومواسم الشعر والخصب والإلهام ، تقف كل الفصول تغني للياليه الأنيقة ...
أرجعيلن
يرجع الطير لي غصونك ويرجع الدم للأغاني
ينجبر خاطر الليالي الشايلة آهاتك معاني
ينطلق ضهر أغنياتنا ونملا بيك الكون أماني
رجعي الضو للمداين… ولون غناك لأوتار سجينة
للعصافير ريش جناحا ……… … وهدهدي الفرحة الحزينة
وركّي فوق لمة غمايم …………… قمرة في كتف المدينة
وهي – قمم الجبل الثلاث - أقرب منظرٍ من كل زوايا المدينة وأقرب عشقٍ من كل ملامحها ، وأبعد أثراً في نفوس زائريها ، وكانت سبباً في حالات الوجد التي زينت جيد أغنيات أهل السودان ، والكل يردد ( حبيت عشانك كسلا وخليت دياري عشانك … وعشقت أرض التاكا الشاربة من ريحانك ) وكل ما مرّ في طرقاتها عبر الذاكرة أهلها وهم يهوِّمون في غربة العاصمة كلما اهتاجت بداخلهم أشواق القهوة والشعر الكثيف الذي يخفي ( الخلال ) على طوله ويفيض ودكاً ورائحة ( كاسلا .. كاسلا .. أنا قلبي سافرا ) ، وثمار المانجو في كسلا ومنذ زمان بعيد أروع وصفٍ لمحبوبةٍ تسكن جراح وحروف مغنيها ، وظلّت حدائقها الغنّاء تبالغ في زيّها الأخضر الجميل الموشّى بيانع الزهر وناضج الثمر والمطرّز برائع الورد ، حتى اصبح الناس يفتتنون ببصلها – ولبصل كسلا سمعةٌ نافذة – ناهيك عن برتقالها و( والموز أبو نقطة ) وأنواع المانجو والبلح التي تحرج بقية الأمصار و الأرياف ، تنام الحدائق على طول المدينة وعرضها مفتوحة العينين والورود ، وتصحو على خيوط الندى يرسم عالمه على ثياب النساء وجلابيب الرجال وهم يبدءون موسم القطف صباحاً قبل الدخول للسوق التي لا تعرف لها مدخلاً أو مخرجا ، كلها أكوام الفاكهة وشلالات عطر البرتقال والجوافة بلونيها وحمرة القريب فروت المميزة واصفرار المانجو ذات الأسماء والروائح والطعم المختلف ، تدهش الزائر حين يؤتى إليه بها متشابهة ، والسوق ضاجة الحركة تبدو عربات ( الكارو ) الصغيرة تجرُّها الخيول معطونةٌ بالرائحة واللون وتداخل الطعم ، بعضها ارتكز على جدران دكاكين ( غرب القاش ) الصغيرة يفعل الزمن فعله في طينها القديم ، نادرا ما ترى الطوب الأحمر ، في انتظار ذهابٍ قريب للحقل المتورّد بأكوام الفاكهة وأصوات النساء ، وبعضها انشغل مع خيولها في التلفت صوب نداءات الباعة المنتشرين ، تصدر عجلاتها أزيزاً دائماً ، ريثما يفرغ الحمّالون المقاطف من على ظهرها ، وأصوات الباعة موسيقى أخرى تغمض الأجفان وتفتحها على عوالم جديدة للروح مفسحةً المجال أمام وجد الصوفيين الذين يقف بينهم وعلى مقربة من الجبل الملهم (ضريح السيد الحسن) ، سقفه السماء ، يقولون أن غارةً (طليانية) أخذت سقفه في ما مضى ولكن الأنصار أيضاً خلوّ بينه وبين السماء دونما يقصدون ، وظل يطالع النجوم من صحن داره ويتوق لسحبٍ تغازله دون أن تبلل (بروشه) الناعمة ، يغسل بدموع مريديه ، أحزانهم وكل طوارق حياتهم.
وكسلا التي تحنو على الريف بداخلها حنواً عميقاً وهو يهب سوقها حياة الجنان وروعتها ، تبدو كمدينة وسيمة الشوارع والأبنية ، أنيقة العمران ، رشيقة حركة المواصلات ، تصطف على خطوط مواقفها الكثيرة حافلات الركاب الصغيرة ( كانوا يسمونها البرينسات ) وباصات الضواحي بأبواقها المميزة ، وتطل على نهرها العظيم الحدائق دائمة الشباب ، تكتب مع أرتال المحبين صفحات الغرام الزاهية ، وقاعاتٍ حكومية وشعبية تضفي على المكان المخضر ألوان أخرى ، والنهر يرقد على شاطئيه الخضر يتأمل الجسر المعلّق فوقه تمرّ عبره حكايات المدينة وسنين وروايات تاريخها الطويل ، والأحلام التي تحيط بمستقبلها ، وهو يضع يداً على يد تحت رأسه ويقرأ كتاب ماضيه ، وعلى مقربةٍ من الجسر الجديد يتأرجح الجسر القديم متأوهاً مع كل حركةٍ على أيام مجده الغابرة والنائمة في أذهان رفاق مشواره من أهل المدينة ، ومتألماً من وقع الخطا على ضلوعه الواهنة يستند فقط على عناية الله.
ومدينة كسلا من المدن السودانية الفريدة التي اختلط أهلها من قبائل الشرق الكثيرة مع قبائل السودان متباينة السحن واللسان والثقافات متفقة السماحة والطيبة وحلو الجوار ، وكذلك تسكنها مجموعات كبيرة من الجاليات ، أصبحت جزءً من تكوينها الإثني والثقافي ، مجموعات كبيرة جاءت من الهند وجعلت لنفسها حياً منفصلاً ( الحي الهندي ) لا يزال يُقفل ليلاً ويُفتح نهاراً ، ينغلق على ذاته بمدارسه وأنديته بأبواب وجدران كبيرة ولكنها ظلت تسرب عبر سمائها المفتوح ثقافتها وتستشف تراث وحضارة المدينة الجميلة ، وتتفاعل معها بذات روح أهلها ، تميزهم شعور نسائهم شديدة السواد والطول ، ولثغة اللسان الآسيوي ، ومحلات بيع القماش والعطور التي تملأ السوق ، والموتوسيكلات التي برعوا في قيادتها ، يذوبون في سودانية الطبع لا يملكون تغيير سحنات آسيا ولكن نهر القاش بدأ يعمل على تغيير لون شعر أبنائهم ويكسوه بحمرة رقيقة ، لسانهم أسلمته الليالي إلى اللهجات المحلية لا يذكر من أمر (الأوردو) وصاحباتها شيئا ، وكذلك تسكنها الجالية الأثيوبية والإرترية تتفق معها في كل شئ عدا اللسان ورويداً رويداً تزول غربته ، وينتمون لكسلا المدينة الدافئة كامل الانتماء.
ومن أشهر أحيائها حي الختمية تسكنه قبائل الشايقية والجعليين والهدندوة ، يبدو كسودانٍ مصغر يقف خلفه الجبل بشموخه ونسمات فضائه العريض متأملاً في ملامح المدينة التي تنام وتصحو بين يديه وتتقافز القرود على أعلى قممه الثلاث ملاعبةً الأطفال والشباب ، متطلعة إلى تجوالٍ قريب بين حدائق الموز المنتشرة على جنبات نهر القاش المتمرد ، تحوّله ليالي الصيف إلى رمالٍ تكسو الرمال وذكرياتٍ تحكي الأمس والماضي وضفافٍ تلعق الصبر في انتظار قطرات ماء تبلل حلقها الجديب ، ولكنه وحين الخريف يأتي مارداً يسوق أمامه عنفوان الشباب وتمرده ويقضي دائماً على مساكن حي غرب القاش الصغيرة ليمنحهم القدرة على خلق بيوت أوسع قد يمحو آثارها حين عودته القادمة ، وما بين نومته وهياج صحوه تخلق كسلا حياةً كاملة الجمال والخضرة تلتقي كلها عند شاطئيه عصراً ، صغاراً وكباراً ، وللمحبين على رماله أسفارٌ من الوله والشوق ...
على الرملِ
كان القاش يبذر أغنيات الحبِّ في الأحداق
فتنبت وردةً حمراءَ
تأخذ شكل هذا القلبْ
وكانت لوعة العشّاقْ
تنام على سرير العشبْ
على الرملِ
زرعنا الوعدَ باللقيا
وبتنا طيَّ هذا العشقِ أغنيتينِ من أشواقْ
وحين تبدأ الشمس سفرها اليومي تسكن أصوات العصافير آذان المدينة زقزقةً وانشراح ، والليل فيها موائد النسيم وسحره ، عبر ممرات السواقي الضيقة كثيرة التعريجات إلى أن تلفّك الوحشة بكامل سطوتها ، تلتقيك المساكن ، تبدأ أصوات ساكنيها تكسر عنك رجيع الهواجس فتتناسى الأغنية الباهتة التي كنت تدخرها لرعشات الخوف هذه وصوت أرجل العالم كلها تخطو وراءك وأنت ( تعصر وتخبّ ) وتكاد تطير ، الأطفال يلعبون لعباتهم الشعبية المحببة والرجال يتسامرون قرب دكان الحي متقد الذاكرة والطرفة والحضور وفوانيس الجيران وكهرباء المدينة ( الما مضمونة ) والشباب يستفزون قدراتهم كلها في مجالس أنديتهم المختلفة.
وفي حي ( السكة حديد ) يجتمع السودان في توادد الأهل ونبل الأصدقاء ووداعة الأحباب ، تكاد بيوته دائرية الغرف وفناءات الدور تكون داراً واحدة تطل عبر جدرانها أوراق أشجار الجوافة والليمون وعرائش العنب التي تطول على ظلالها الوريفة جلسات القهوة وأحاديث الظهيرة المخلوطة بالنعاس اللذيذ والإرهاق ، ويسطع فيها نجم الراديو تغسل أغنيات برامجه النهارية أوجاع الحقل وأعباء السوق ومسؤوليات المنازل الكثيرة ، ومن جميل ما يميز كسلا أنها لم تسلب ساكنيها من بقية القبائل ومناطق السودان وحتى خارجه ذواتهم ولم تترك ثوبها هي كذلك ، تجد عبر ليلها المملوء أشجاناً وأفراحا ، نقارة أهل الغرب وطنبور الشماليين وباسنكوب الشرق وشعورهم الطويلة التي تشكو تغوّل الزيت الدائم عليها ، وتجد في قلب المدينة أوركسترا أهل الوسط وكلها محضورةٌ دائماً ، عامرة تفيض إلفاً وقربى ، وفي السوق الكبيرة بوسط المدينة ، تنتظم أكوام الفاكهة المبعثرة في سوق غرب القاش الصغيرة ، على مناضد خشبية مختلفة الألوان والأسماء تأخذ زينتها عند كل صباح بعد غسلها ورصها في أشكال هندسية جميلة ، ولكنها تحافظ على سعرها الزهيد في السوقين ، ولو أنها تبدي بعض الغلاء بوسط المدينة لحرص زوّار المدينة من عرسان السودان الذين يحجون إليها على شراء فاكهتها المشهورة حين عودتهم إلى مدنهم ، وتسيطر على مطاعمها وجبات أهل الشرق الرئيسة يبدو ( السلات ) وهو عبارة عن لحمٍ ينضج على حجارة محماة بالنار في كامل دسمه واحمراره الشهيّ ، ويتألق ( القُرار ) اللحم المحشو في ( مصران ) الخروف ، لكأن كل توابل الحضارات مزجت بخلطته وكل قوائم الطعم اصطفت عند ضفة حجارته المتقدة فلا تكاد تشبع منه ولا تكاد تخطئ نظرة النصر في عيون الطاهي وهو يهبُّ ناره ويغني بابتسامته التي تفوق الضحك بمراحل ، يصاحبها بأغنياتٍ محببة وبعض رقصٍ يهزّ فيه رقبته بمهارة فائقة ، ولكن الفول يظل ملمح كل المدن السودانية ، يزيده السمن البلدي حضوراً في مطاعمها البلدية التي لا تفتر عن تقديم وجباتها طوال اليوم وتضجّ قربها المقاهي تقطع سكون الليل بأنفاس الشيشة وبخار الشاي ورائحة القهوة وونسات السمّار ، تتميز مقاعدها الخشبية باللونين الأخضر و(اللبني ) مع سواد اتساخٍ يطليه بها الزمن والناس ، وهي من أميز ملامح المدينة تجد فيها أخبار العالم ونتائج مباريات إستاد كسلا المفضوح بارتفاع الجبل ، يتحد فيها الصبر والأمل والحب والرغبة وتتطاير الأحلام مع لفافات دخان الشيشة وينجو العقل ببعض خدرها من التفكير في الواقع المر ، والطريق السريعة خارج المدينة لا تنتهي بعد خروجها إلا إلى حدائق وسواقي وضواحي كسلا التي تملأ سوق غرب القاش بالحياة ، وتمتد مدّ البصر أحزمة الخضرة حول المدينة حتى لتكوّن على جيدها وشاحاً من الخضرة والجمال عقده الجبل الذي لا تبرحه سحاباته وذيولها الضبابية وقروده التي تغيب ساعات العصر حين يضجّ الجبل باللقاءات وتبدأ بعد الغروب في ملء أسماع المدينة بأصوات ألعابها وبهجتها الممتد عبر أزمانٍ وأزمان.
لا تكاد تغادر مدينة الجمال المتجدد تلك إلا وتلتفت صوب ذكرياتك فيها تطالع الجبل وهو يودعك بجبينه المغسول وسحاباته الدامعة ، حتى تغيب عنك ، فيبدأ القلب عندها في التلفت والشِعر يحوّم حولك " كسلا أشرقت بها كأس وجدي " قبل أن يغنيها الكابلي ويبدل الكأسَ بالشمسِ لاعتباراتٍ لا تخصّ المدينة ، ولا حالات الإلهام العميقة ، ويظل الجبل يقاطع المسافاتِ وأنت راحلٌ عنها حتى لتظنه يتبعك وهو غارقٌ في عشقه حتى أخمص حجارته ، وتتقد بينك وبينه لغة الهوى فتنام على أشجانك ويصحو الغناء
بقلم / أسامة معاوية الطيب
أول ما يكحِّل العين وهي تشارف على مدينة كسلا ، سحابةٌ ترسل أذيالها على نواصي جبل التاكا الثلاث ، لا تبرح مكانها وتظل تدور حولها وهي تغمض عينيها خجلا ، وتجود بدمعها أمطاراً ناعمة تغسل حجارة الجبل الملساء فتكتب للعشاق صفحة غرامٍ أخرى ، وهم يخطون في وداعةٍ عبر مساربه الكثيرة لبلوغ إحدى قممه ، وجبل التاكا أكثر جبل سوداني رسم لنفسه هالة الحب والعشق في نفوس زائريه – يقاسمه جبل مرة وجبل البركل بعض العبق – في بلد تفاخر بسهولها الممتدة كأوراق ( الفلسكاب ) البيضاء تنتظر فقط أقلام الترابلة لكتابة الجهد والعرق حتى يوقِّع الماء عليها مزارعاً تسد عين الشمس وشتولاً تخيط المساحات بإبر الخضرة والعبير ، كان الصبية قديما حين كانت المدارس ، وقبل أن ترحل مع مواسم الأمل ، يحضرون ( فتايل ) الدواء الفارغة لصرف الحبر يوم السبت من كل أسبوع – على أيام قلم الشطَّافة - والآن يحضر المزارعون ذات الفتايل لصرف ( الجزلين ) لتحبير تلك الأوراق الممتدة لذا فإن كتابة الترابلة لا تزال على رأس الورقة فقط ، وما بين الكلمة والكلمة ينفضون القلم عدة مرات في زمنٍ مزَّقتنا فيه الفواتير - وأهل كسلا يعرفون أن من تقوده قدماه إلى إحدى القمم الثلاث ، وأكثرها دنوُّاً من الأرض ويشرب من نبع (توتيل) الذي يخالف قوانين الفصول ويظل كما يشتهيه الزائرون ، يتفجّر عيوناً تغسل الحجارة ، وناعم الرمل ، والخواطر المسروقة بروعة المشهد ، لا بدّ وأن يعود إليه ثانيةً ، وكثيرٌ من الشواهد تؤيد أساطيرهم هذه بعودة الزوَّار ولو بعد حين ، يبدو الجبل في ثلاث قممٍ سامقة تتسابق فيما بينها لتمنح الوجود لوحةً نادرة الجمال ، والجبل كله عبارة عن صخرةٍ كبيرة ، لامعة ، مغسولة ، تتخلل تعرجاتها شجيرات صغيرة ، يبدو الندى على أوراقها كسبحةٍ نثرتها الشمس على هامة الجبل البيضاء وسالت بغير نظام على وجوه الشجيرات وسكنت ، لا تكاد تغيب طيلة أشهر السنة وتتجمل في الخريف مع تفتق الزهور ومواسم الشعر والخصب والإلهام ، تقف كل الفصول تغني للياليه الأنيقة ...
أرجعيلن
يرجع الطير لي غصونك ويرجع الدم للأغاني
ينجبر خاطر الليالي الشايلة آهاتك معاني
ينطلق ضهر أغنياتنا ونملا بيك الكون أماني
رجعي الضو للمداين… ولون غناك لأوتار سجينة
للعصافير ريش جناحا ……… … وهدهدي الفرحة الحزينة
وركّي فوق لمة غمايم …………… قمرة في كتف المدينة
وهي – قمم الجبل الثلاث - أقرب منظرٍ من كل زوايا المدينة وأقرب عشقٍ من كل ملامحها ، وأبعد أثراً في نفوس زائريها ، وكانت سبباً في حالات الوجد التي زينت جيد أغنيات أهل السودان ، والكل يردد ( حبيت عشانك كسلا وخليت دياري عشانك … وعشقت أرض التاكا الشاربة من ريحانك ) وكل ما مرّ في طرقاتها عبر الذاكرة أهلها وهم يهوِّمون في غربة العاصمة كلما اهتاجت بداخلهم أشواق القهوة والشعر الكثيف الذي يخفي ( الخلال ) على طوله ويفيض ودكاً ورائحة ( كاسلا .. كاسلا .. أنا قلبي سافرا ) ، وثمار المانجو في كسلا ومنذ زمان بعيد أروع وصفٍ لمحبوبةٍ تسكن جراح وحروف مغنيها ، وظلّت حدائقها الغنّاء تبالغ في زيّها الأخضر الجميل الموشّى بيانع الزهر وناضج الثمر والمطرّز برائع الورد ، حتى اصبح الناس يفتتنون ببصلها – ولبصل كسلا سمعةٌ نافذة – ناهيك عن برتقالها و( والموز أبو نقطة ) وأنواع المانجو والبلح التي تحرج بقية الأمصار و الأرياف ، تنام الحدائق على طول المدينة وعرضها مفتوحة العينين والورود ، وتصحو على خيوط الندى يرسم عالمه على ثياب النساء وجلابيب الرجال وهم يبدءون موسم القطف صباحاً قبل الدخول للسوق التي لا تعرف لها مدخلاً أو مخرجا ، كلها أكوام الفاكهة وشلالات عطر البرتقال والجوافة بلونيها وحمرة القريب فروت المميزة واصفرار المانجو ذات الأسماء والروائح والطعم المختلف ، تدهش الزائر حين يؤتى إليه بها متشابهة ، والسوق ضاجة الحركة تبدو عربات ( الكارو ) الصغيرة تجرُّها الخيول معطونةٌ بالرائحة واللون وتداخل الطعم ، بعضها ارتكز على جدران دكاكين ( غرب القاش ) الصغيرة يفعل الزمن فعله في طينها القديم ، نادرا ما ترى الطوب الأحمر ، في انتظار ذهابٍ قريب للحقل المتورّد بأكوام الفاكهة وأصوات النساء ، وبعضها انشغل مع خيولها في التلفت صوب نداءات الباعة المنتشرين ، تصدر عجلاتها أزيزاً دائماً ، ريثما يفرغ الحمّالون المقاطف من على ظهرها ، وأصوات الباعة موسيقى أخرى تغمض الأجفان وتفتحها على عوالم جديدة للروح مفسحةً المجال أمام وجد الصوفيين الذين يقف بينهم وعلى مقربة من الجبل الملهم (ضريح السيد الحسن) ، سقفه السماء ، يقولون أن غارةً (طليانية) أخذت سقفه في ما مضى ولكن الأنصار أيضاً خلوّ بينه وبين السماء دونما يقصدون ، وظل يطالع النجوم من صحن داره ويتوق لسحبٍ تغازله دون أن تبلل (بروشه) الناعمة ، يغسل بدموع مريديه ، أحزانهم وكل طوارق حياتهم.
وكسلا التي تحنو على الريف بداخلها حنواً عميقاً وهو يهب سوقها حياة الجنان وروعتها ، تبدو كمدينة وسيمة الشوارع والأبنية ، أنيقة العمران ، رشيقة حركة المواصلات ، تصطف على خطوط مواقفها الكثيرة حافلات الركاب الصغيرة ( كانوا يسمونها البرينسات ) وباصات الضواحي بأبواقها المميزة ، وتطل على نهرها العظيم الحدائق دائمة الشباب ، تكتب مع أرتال المحبين صفحات الغرام الزاهية ، وقاعاتٍ حكومية وشعبية تضفي على المكان المخضر ألوان أخرى ، والنهر يرقد على شاطئيه الخضر يتأمل الجسر المعلّق فوقه تمرّ عبره حكايات المدينة وسنين وروايات تاريخها الطويل ، والأحلام التي تحيط بمستقبلها ، وهو يضع يداً على يد تحت رأسه ويقرأ كتاب ماضيه ، وعلى مقربةٍ من الجسر الجديد يتأرجح الجسر القديم متأوهاً مع كل حركةٍ على أيام مجده الغابرة والنائمة في أذهان رفاق مشواره من أهل المدينة ، ومتألماً من وقع الخطا على ضلوعه الواهنة يستند فقط على عناية الله.
ومدينة كسلا من المدن السودانية الفريدة التي اختلط أهلها من قبائل الشرق الكثيرة مع قبائل السودان متباينة السحن واللسان والثقافات متفقة السماحة والطيبة وحلو الجوار ، وكذلك تسكنها مجموعات كبيرة من الجاليات ، أصبحت جزءً من تكوينها الإثني والثقافي ، مجموعات كبيرة جاءت من الهند وجعلت لنفسها حياً منفصلاً ( الحي الهندي ) لا يزال يُقفل ليلاً ويُفتح نهاراً ، ينغلق على ذاته بمدارسه وأنديته بأبواب وجدران كبيرة ولكنها ظلت تسرب عبر سمائها المفتوح ثقافتها وتستشف تراث وحضارة المدينة الجميلة ، وتتفاعل معها بذات روح أهلها ، تميزهم شعور نسائهم شديدة السواد والطول ، ولثغة اللسان الآسيوي ، ومحلات بيع القماش والعطور التي تملأ السوق ، والموتوسيكلات التي برعوا في قيادتها ، يذوبون في سودانية الطبع لا يملكون تغيير سحنات آسيا ولكن نهر القاش بدأ يعمل على تغيير لون شعر أبنائهم ويكسوه بحمرة رقيقة ، لسانهم أسلمته الليالي إلى اللهجات المحلية لا يذكر من أمر (الأوردو) وصاحباتها شيئا ، وكذلك تسكنها الجالية الأثيوبية والإرترية تتفق معها في كل شئ عدا اللسان ورويداً رويداً تزول غربته ، وينتمون لكسلا المدينة الدافئة كامل الانتماء.
ومن أشهر أحيائها حي الختمية تسكنه قبائل الشايقية والجعليين والهدندوة ، يبدو كسودانٍ مصغر يقف خلفه الجبل بشموخه ونسمات فضائه العريض متأملاً في ملامح المدينة التي تنام وتصحو بين يديه وتتقافز القرود على أعلى قممه الثلاث ملاعبةً الأطفال والشباب ، متطلعة إلى تجوالٍ قريب بين حدائق الموز المنتشرة على جنبات نهر القاش المتمرد ، تحوّله ليالي الصيف إلى رمالٍ تكسو الرمال وذكرياتٍ تحكي الأمس والماضي وضفافٍ تلعق الصبر في انتظار قطرات ماء تبلل حلقها الجديب ، ولكنه وحين الخريف يأتي مارداً يسوق أمامه عنفوان الشباب وتمرده ويقضي دائماً على مساكن حي غرب القاش الصغيرة ليمنحهم القدرة على خلق بيوت أوسع قد يمحو آثارها حين عودته القادمة ، وما بين نومته وهياج صحوه تخلق كسلا حياةً كاملة الجمال والخضرة تلتقي كلها عند شاطئيه عصراً ، صغاراً وكباراً ، وللمحبين على رماله أسفارٌ من الوله والشوق ...
على الرملِ
كان القاش يبذر أغنيات الحبِّ في الأحداق
فتنبت وردةً حمراءَ
تأخذ شكل هذا القلبْ
وكانت لوعة العشّاقْ
تنام على سرير العشبْ
على الرملِ
زرعنا الوعدَ باللقيا
وبتنا طيَّ هذا العشقِ أغنيتينِ من أشواقْ
وحين تبدأ الشمس سفرها اليومي تسكن أصوات العصافير آذان المدينة زقزقةً وانشراح ، والليل فيها موائد النسيم وسحره ، عبر ممرات السواقي الضيقة كثيرة التعريجات إلى أن تلفّك الوحشة بكامل سطوتها ، تلتقيك المساكن ، تبدأ أصوات ساكنيها تكسر عنك رجيع الهواجس فتتناسى الأغنية الباهتة التي كنت تدخرها لرعشات الخوف هذه وصوت أرجل العالم كلها تخطو وراءك وأنت ( تعصر وتخبّ ) وتكاد تطير ، الأطفال يلعبون لعباتهم الشعبية المحببة والرجال يتسامرون قرب دكان الحي متقد الذاكرة والطرفة والحضور وفوانيس الجيران وكهرباء المدينة ( الما مضمونة ) والشباب يستفزون قدراتهم كلها في مجالس أنديتهم المختلفة.
وفي حي ( السكة حديد ) يجتمع السودان في توادد الأهل ونبل الأصدقاء ووداعة الأحباب ، تكاد بيوته دائرية الغرف وفناءات الدور تكون داراً واحدة تطل عبر جدرانها أوراق أشجار الجوافة والليمون وعرائش العنب التي تطول على ظلالها الوريفة جلسات القهوة وأحاديث الظهيرة المخلوطة بالنعاس اللذيذ والإرهاق ، ويسطع فيها نجم الراديو تغسل أغنيات برامجه النهارية أوجاع الحقل وأعباء السوق ومسؤوليات المنازل الكثيرة ، ومن جميل ما يميز كسلا أنها لم تسلب ساكنيها من بقية القبائل ومناطق السودان وحتى خارجه ذواتهم ولم تترك ثوبها هي كذلك ، تجد عبر ليلها المملوء أشجاناً وأفراحا ، نقارة أهل الغرب وطنبور الشماليين وباسنكوب الشرق وشعورهم الطويلة التي تشكو تغوّل الزيت الدائم عليها ، وتجد في قلب المدينة أوركسترا أهل الوسط وكلها محضورةٌ دائماً ، عامرة تفيض إلفاً وقربى ، وفي السوق الكبيرة بوسط المدينة ، تنتظم أكوام الفاكهة المبعثرة في سوق غرب القاش الصغيرة ، على مناضد خشبية مختلفة الألوان والأسماء تأخذ زينتها عند كل صباح بعد غسلها ورصها في أشكال هندسية جميلة ، ولكنها تحافظ على سعرها الزهيد في السوقين ، ولو أنها تبدي بعض الغلاء بوسط المدينة لحرص زوّار المدينة من عرسان السودان الذين يحجون إليها على شراء فاكهتها المشهورة حين عودتهم إلى مدنهم ، وتسيطر على مطاعمها وجبات أهل الشرق الرئيسة يبدو ( السلات ) وهو عبارة عن لحمٍ ينضج على حجارة محماة بالنار في كامل دسمه واحمراره الشهيّ ، ويتألق ( القُرار ) اللحم المحشو في ( مصران ) الخروف ، لكأن كل توابل الحضارات مزجت بخلطته وكل قوائم الطعم اصطفت عند ضفة حجارته المتقدة فلا تكاد تشبع منه ولا تكاد تخطئ نظرة النصر في عيون الطاهي وهو يهبُّ ناره ويغني بابتسامته التي تفوق الضحك بمراحل ، يصاحبها بأغنياتٍ محببة وبعض رقصٍ يهزّ فيه رقبته بمهارة فائقة ، ولكن الفول يظل ملمح كل المدن السودانية ، يزيده السمن البلدي حضوراً في مطاعمها البلدية التي لا تفتر عن تقديم وجباتها طوال اليوم وتضجّ قربها المقاهي تقطع سكون الليل بأنفاس الشيشة وبخار الشاي ورائحة القهوة وونسات السمّار ، تتميز مقاعدها الخشبية باللونين الأخضر و(اللبني ) مع سواد اتساخٍ يطليه بها الزمن والناس ، وهي من أميز ملامح المدينة تجد فيها أخبار العالم ونتائج مباريات إستاد كسلا المفضوح بارتفاع الجبل ، يتحد فيها الصبر والأمل والحب والرغبة وتتطاير الأحلام مع لفافات دخان الشيشة وينجو العقل ببعض خدرها من التفكير في الواقع المر ، والطريق السريعة خارج المدينة لا تنتهي بعد خروجها إلا إلى حدائق وسواقي وضواحي كسلا التي تملأ سوق غرب القاش بالحياة ، وتمتد مدّ البصر أحزمة الخضرة حول المدينة حتى لتكوّن على جيدها وشاحاً من الخضرة والجمال عقده الجبل الذي لا تبرحه سحاباته وذيولها الضبابية وقروده التي تغيب ساعات العصر حين يضجّ الجبل باللقاءات وتبدأ بعد الغروب في ملء أسماع المدينة بأصوات ألعابها وبهجتها الممتد عبر أزمانٍ وأزمان.
لا تكاد تغادر مدينة الجمال المتجدد تلك إلا وتلتفت صوب ذكرياتك فيها تطالع الجبل وهو يودعك بجبينه المغسول وسحاباته الدامعة ، حتى تغيب عنك ، فيبدأ القلب عندها في التلفت والشِعر يحوّم حولك " كسلا أشرقت بها كأس وجدي " قبل أن يغنيها الكابلي ويبدل الكأسَ بالشمسِ لاعتباراتٍ لا تخصّ المدينة ، ولا حالات الإلهام العميقة ، ويظل الجبل يقاطع المسافاتِ وأنت راحلٌ عنها حتى لتظنه يتبعك وهو غارقٌ في عشقه حتى أخمص حجارته ، وتتقد بينك وبينه لغة الهوى فتنام على أشجانك ويصحو الغناء
بقلم / أسامة معاوية الطيب