فتحت الباب ونظرت أول ما نظرت إلى أسفل . كما تعودت دائماً .. أن أقيم الشخص لأول وهلة من قدميه وحذائه . فوجدت شبشب قديم تخرج منه أصابع بأظافر طويلة غير نظيفة وملابس لا تختلف كثيراً حيث تبدو عليها مظاهر الفقر الشديد , بلوفر قديم باهت اللون كثير الثقوب وبنطلون جينز يسأل صاحبه الرحمة و الإعفاء من خدمة طال أمدها . وحقيبة رياضية مهترئة ثقيلة الوزن مفتوحة من كل جانب يمارس جهد شديد فى محاولة حملها شاب فى الثامنة عشر يبدو وجهه شاحب وتظهر عليه كافة مظاهر سوء التغذية و الفقر اللعين ..
بادرته باسماً أتاخرت ليه يا عم انتا ؟
تحول وجهه من التجهم و التحفز إلى أبتسامة ذات غموض ساحر أظهرت إهمال واضح فى فكي أسنانه نتيجة الفقر والذى يجعل من شكل الأسنان جزء من الكماليات شديدة الرفاهية حيث كُسرت كلياً أحداها وأخرى مكسور نصفها
وقال : معلش يا باشا انا لسه راجع من الشغل الأولانى فى المصنع وأول ما وصلت للمكتب الباشمهندس بلغنى بالأوردر بتاع حضرتك
قولت : تمام .. أيه رأيك هنركب الطبق فى السطح ولا البلكونة ؟
قالى : لا أنا بحب أكتر شغل السطح بيكون براحتنا ووبنظبط الأشارة أسهل
قلت : تمام .. توكلنا علي الله وصعدنا الى سطح المنزل وبدأ فى إخراج معداته و أشعلت سيجارة وأنا أتفحص فى هذا ابن الثامنة عشر تقريباً . أين له بأصول وفنون مهنة مثل تركيب الأطباق الفضائية ومتى تعلمها ودُهشت عندما كنت أقارن الشكل البسيط بالمهنة اللتى تتطلب معرفة ومهنية و مبادىء لغة أجنبية للتعرف على أسماء الأقمار والترددات وخلافه وقلت فى نفسى لننتظر ونرى . بدأ فى العمل بجد واجتهاد شديد وتأكدت سريعاً من تمكنه من مهنته وبدأت التحدث معه وعلمت انه يعمل فى مهنتين الأولى فى مصنع أستانلس ستيل على ماكينة طباعة من الساعة التاسعة صباحاً حتى الخامسة مساءاً ثم يذهب فى السابعة إلى مكتب الباشمهندس هشام ليعمل فى مهنة تركيب الأطباق الفضاية وصيانتها حتى الساعة الثانية صباحاً ثم يذهب إلى منزله الذى يستأجره بمشاركة 4 أفراد تكاد حياتهم تتشابه من حيث قسوتها . وعلمت أنه ينتمى لمحافظة اسيوط ويذهب إلى هناك كل أجازة . وجرى بنا حديث عادى عن الظروف و المرتب الضعيف والعمل القاسى وما شابه حتى سألته عن ما إذا كان بأمكانى الأتصال به قريباً حتى يذهب إلى قريب لى لأعادة برمجة جهاز الأستقبال لديه
فرد وقال : فى أى يوم حضرتك أنا تحت أمرك معادا يوم الأربعاء .. سألته مندهشاً : أشمعنى الأربعاء ؟؟ قالى ده يوم 25 يناير وأنا هانزل الميدان .
هنا أنتبهت وأستيقظت حواسى ووجدت أمامى كنز بديع من المناقشات مع واحد من المنسيين و المهمشين والذين نُتهم دائماً بأننا قطعنا عيشهم وارزاقهم وأصبحوا يكرهوننا .. إلخ ..
هو انتا بتنزل الميدان ؟؟!!.. واستطردت انتا مالك انتا ومال الحاجات دى يا عم وبعدين العيال بتوع التحرير دول شوية عيال صيع و بلطجية ومالهمش شغلانة غير المظاهرات وخربوا البلد الهى يخرب بيوتهم كلهم . وانهيت كلامى ثم دخلت فى مرحلة صمت
فى إنتظار أن أسمع ... وسمعت
بدأ وقال .. لا يا باشا مش كل الناس اللى هناك صيع دول ناس متعلمين كويس وماسكين شغلانات كويسة ومعاهم فلوس من الأخر وعندهم وقت فاضى ينزلوا يطالبوا بحقوق الشعب الفقير الشقيان اللى طالع من شغلانة على التانية ومعندوش وقت زيهم ينزل يطالب بحقه , ومفيش هناك بلطجية ولو فى ناس بلطجية وبتحرق وبتخرب دول يأما بتوع طرة أو الحزب الوطنى اللى بيزقوهم
كدت أرقص من داخلى . ثم واصلت .. بقولك ايه يا عمنا الثورة دى كلها عبارة عن مؤامرة عملتها أمريكا واسرائيل عشان يهدوا مصر ويعرفوا يسيطروا عليها .. ونظرت فى عينيه ووجدت ضيق شديد من كلامى وبدأ كلامه بشبه سخرية وقالى يا باشا أوعى تكون بتفرج على التليفزيون المصرى وبتصدق كلامهم . الثورة دى مش مؤامرة من اى حد ..
الثورة دى احسن حاجة حصلت فى تاريخ مصر من الأخر . وأنهى كلامه بتلك الجملة وهو يرغب فى إنهاء الحديث بالظبط مثل ردود أفعالنا عندما نجد واحد من فصيلة العبيد ونرغب فى إنهاء الحديث
وسريعاً صححت له الصورة ووضحت له انى بدأت كلامى هكذا لرغبتى فى معرفة رد فعله ..
فضحك كثيراً وقال : الله يا باشا ما تزعلش منى انا كنت بشتمك من جوايا وبقول امتى هاخلص الشغلانة عند المتخلف ده ... وبدأ يحكى ويسترسل بعدما اطمأن لى وأخذ يسرد بأفتخار شديد بطولاته فى الثورة من يوم 28 يناير إلى أحداث مجلس الوزراء مروراً بأحداث محمد محمود .
سألته أيه رأيك فى الجيش : قالى مفيش أى فرق بينهم وبين حسنى مبارك .. وبعدين حسنى مبارك مش عبيط عشان يسلم البلد لناس غريبة عنه أو مش مطمن لها .. ثم ختم كلامه بأن قال إن شاء الله ياباشا الثورة هتنجح وهنبقى احسن بلد فى الدنيا بس الناس اللى حوالينا تفهم عشان انا كل الناس القريبة منى بتقولى انتا بتاخد كام عشان تنزل التحرير وكلام من ده . وانا برد واقول فى راجل كبير كده بيقبضنا كل يوم 600 جنيه وتعالوا معايا وانتوا تأخدوا ههههههههههه . هقولهم ايه يعنى .. ؟؟
والله عالم جهلة والبهايم بتفهم اكتر منهم رغم يا باشا انتا ممكن تعتبرنى واحد من الناس اللى الثورة جت عليهم بالضرر بس انا مش فارق معايا وهفضل أنزل كل يوم لو حكمت .
قلت والثورة ضرتك فى ايه .. ؟؟
قالى : الباشمهندس هشام كان بيدينى 350 كل شهر وبعد الثورة خلاها 300 بس , رغم إنى بدخلّه فى الشهر مش أقل من 3000 جنيه ولما سألته ليه كده اتحجج وقال ان الثورة خربت بيته وكده رغم أنى شغال معاه ومالاحظتش خالص ان شغله أتاثر من الثورة بس تقول أيه بقى راجل برجوازى ومعفن .!!!!!!!!! قالها وسكت
وأنتفضت أنا من مكانى اييييييييييييييه بتقول اييييييييييييييه ... برجوازى ايه دى .. يعنى برجوازى اصلاً ؟؟
نظر لى بأستغراب وقال ايه يا باشا عادى يعنى ..
قلت له لا .. مش عادى اشمعنى برجوازى ؟؟ .. معناها ايه يعنى ؟؟؟
قالى : لا والله .. انا فاهم معناها بس مش هاقدر اشرحه .
قولت له قول اللى انتا فاهمه وخلاص ..
قالى : برجوازى يعنى ناس كده فى "طبقة" معينة معاها فلوس كتير وبتدوس على كل الناس اللى تحتها ..
وهنا لم أستطع الأنتظار وسألته .. انتا شيوعى ؟؟
لا والله يا باشا فى ناس عندنا فى المصنع مطلعين عليا التهمة دى و بيقولولى انتا شيوعى عشان بنزل الميدان .. وانا أقولهم يعنى ايه شيوعى دى أصلاً ؟؟
وأنتهى حديثنا واخذ يلملم فى معداته ثم همّ بالذهاب .
قلت له .. أستنى أنتا كل ده ومقولتش أسمك ايه .. أسمك ايييييييييه ؟؟
نور يا باشا .... أسمى نـــــــــــــــــور
مصطفى الشوربجى
القاهرة فى 20/1/2012
فكرة : أحمد فؤاد