و أنا على بوابة مقر عملى لمحته يهم بالخروج فى إرتياب وقلق , كأنه يهرب من شىء ما ألقيت عليه التحية ورد فى سرعة وتعجل دون أن ينظر إلىّ , كان ينظر للأرض وكأنه يخفى وجهه عن الناظرين . كان يجتهد فى محاولة الخروج دون أن يراه أحد فهو فى حكم المزوغ خلال أوقات العمل الرسمية , الطريف كان أعتقاده أنه نجح فى مسعاه وأن لا أحد على الإطلاق يعلم إلى أين يذهب فى هذا التوقيت المبكر من ساعات العمل .. وفى المقابل كل من يعرفه يعلم تماماً أين يذهب عبده فى تمام الساعة الحادية عشر من صباح كل يوم بداية من مديره الذى يستأذن منه للخروج لأمر ما كل يوم فى نفس التوقيت .. إلى زملاءه فى الإدارة مروراً بموظفى الأمن القابعين عند البوابة وإنتهاء بأصحاب المحلات الموجودة فى محيط مبنى المصلحة الحكومية . يستغل عبده هذه الوقت من الصباح فى الوقوف فى طابور العيش ليقضى حاجته من الأرغفة الساخنة ويعود مرة أخرى إلى مقر العمل حاملاً كيساً كبيراً فيه ما يقرب من 35 رغيف عيش .. عبده يمثل عندى حالة تستحق الدراسة والتحليل وكثيرأ ما أتأمله باحثاً عن شىء ما وكثيراً ما سألت نفسى ماذا يفعل عبده بهذا العدد الكبير من الأرغفة ؟؟ كم رغيف يحتاجه عبده وكام رغيف يجد طريقه لصندوق القمامة ؟؟ . هل تقوم مثلاً عائلة عبده بتربية بعض الطيور المنزلية التى تتغذى على أرغفة العيش بدلاً من العلف كنوع من التوفير .. حيث أن أسعار الرغيف المدعم أقل كثيراً من اسعار العلف ؟؟ .. وكثيراً أيضاً ما استسلمت لفكرة ان عبده يعيش ضمن عائلة كبيرة فى بيت كبير يضم عدد من الأشقاء وهو المسئول عن توفير حاجاتهم من العيش .
عبده فى أواخر الثلاثينيات غير مهندم على الأطلاق , دائماً ما تجد فى مظهره شىء ما حذاء مهترىْ , ألوان غير متناسقة , تى شيرت أسفل القميص لونه يدمر الصورة بالكامل
- لا يهتم بمظهر شعره طبعاً -
. بمجرد النظر إليه تعلم أنه أحد مواطنى قرية ريفية من القرى الواقعة على أطراف القاهرة , لا تسل ولا يشغل تفكيرك فكرة أن مواطن ريفى يدوام على شراء حاجاته من الخبز من يومياً . لأن قُــرانا انتهت فيها تلك الأنشطة منذ زمن .
منذ شهر تقريباً جمعتنى به صدفة الألتقاء عند مكتب المدير العام وعند خروجنا لمحته ينزل سريعاً على السلم المؤدى لبوابة الخروج وسألته بأبتسامة وفى إنتظار سماع جواب ما .. إلى أين ؟؟ رد قائلاً فى خبث ريفى مكشوف .. مشوار كده وهاجى على طول .. كنت اريد أن أثبت لنفسى فكرتى المستقرة عنه .. رغيف العيش يمثل عنده غاية عظيمة وهدف حيوى جداً لو تعلمون . يأتى إلى العمل صباحاً وفى ذهنه متى سيخرج لشراء العيش . ويبداً اللاعمل وهو ناظراً فى ساعته بين الحين والأخر منتظراً حلول الحادية عشر . أخبره مرة مديره أن عليه الذهاب إلى مأمورية تخص العمل .. أوامرك يا فندم .. أمتى بالظبط وهاروح فين ؟؟ رد وقال مشوار سريع لغاية المحكمة الفلانية تخلصه دلوقتى وتيجى تانى على طول .. فرصة وانا راجع اعدى على الفرن بالمرة " قالها بينه وبين نفسه " حاضر يا رئيس أوامرك . وكثيراً ما اضبط نفسى ماراً على الغرفة التى تشغلها الأدارة التى يعمل بها عبده "بعد الحادية عشر طبعاً" لأتحقق من المكتب الخاص به المغطى تماماً بأرغفة العيش الساخنة والتى يقوم عبده بفردها لزوم التهوية .
ذات يوم جاءنا خبر وفاة والد أحد الزملاء , فى تلك المناسبات يقوم العمل بأخراج سيارة تحمل بعض الزملاء لحضور الجنازة والعودة فى إطار التكافل بين الزملاء وبعضهم فى الظروف الأستثنائية مثل حالات الوفاة . وتتم كتابة اسماء الموظفين الراغبين فى الذهاب للتعزية وحضور الجنازة ويتم إعفاء هؤلاء من الأمضاء فى كشوف الإنصراف ويكتب أمام أسم كل منهم " واجب عزاء " .. وفعلاً توجهنا أنا و مجموعة من الزملاء و تحركت السيارة فى أتجاه منزل الزميل وأتيح لى أن أرى كشف الأسماء و وجدت أسم عبده .. فمررت ببصرى فى السيارة ولم أجده ونظرت من الشباك وكانت العربة بالصدفة البحتة تمر أمام مخبز نصف إلى " هكذا كُـــتب عليه " ولمحت عبده يقف فى إحترام كامل ومهابة شديدة فى طابور العيش كأنه يقوم بمهمة مقدسة ممسكاً بالكيس البلاستيك فى إنتباه وتحفز . عبده واحد من ضمن ملايين انبهروا بخطاب تحكيم شرع الله فينا ولا أدرى هل سأل نفسه عن حرمانية الفترة التى يقضيها من أوقات العمل الرسمية أمام الفرن .. لا أعتقد أن مسألة تافهة كتلك قد شغلت فكره مرة واحدة .