كنت في رحلة تعرّف على أرض النوبة في السودان، استغرقت ثلاثة أسابيع، وكانت إضافة مذهلة لما كنت أعرفه، وبالأحرى لما كنت أظن أني أعرفه عن النوبة، فجاءت الرحلة إضافة وتصحيحاً لمعرفتي الناقصة والمغلوطة في معظمها، إذ كانت الصورة التي نقلت إلى وعيي عن النوبة من خلال الإعلام ومن خلال معرفتي بالمثقفين النوبيين تتلخص في قضية مأساة شعب تم تهجيره طوعاً في الغالب وكرها في الأقل، دون تعويض مناسب ودون مراعاة لما كانت عليه حال الشعب المهجر، حيث تم توطينه في بيئة مخالفة طبيعياً واجتماعياً لما كانت عليه بيئته الأصلية منذ آلاف السنين، فسلب بالإضافة لوطنه تقاليده وأعرافه وعزوته فأصبح غريب المكان والمكانة بعد تمتعه بعز وإن كان قديماً، إلا أنه مازال يحفظه في وجدانه وتراثه الشعبي، فهو فخره بحضارته وتقاليده، وهي صورة وإن كانت صحيحة إلا انها كانت غير كافية لمعرفة مأساة النوبة الحقيقية.كان آخر عهدنا بالصخب والمقاهي والمحلات والشوارع المزدحمة ودخان العوادم في أسوان حيث قضينا ليلة لننطلق في رحلتنا إلى أرض «الواوات» على متن عبارة متهالكة تحمل أكثر من ضعفي حمولتها المقررة من الركاب، لتقطع في حوالي عشرين ساعة بحيرة ناصر التي تقبع تحتها عميقاً بلاد النوبة الغارقة، تقوم العبّارة برحلتها مرة واحدة في الأسبوع بين أسوان وحلفا، بحمولة مقررة ٢٥٠ راكبا، أي أقل من حمولة طائرة متوسطة الحمولة تقوم برحلات يومية بين القاهرة والدوحة أو جدة، تخدم هذه العبارة الحركة بين شعبين ارتبطا بحضارة مشتركة منذ فجر التاريخ. والطريق البري مازال تحت الإنشاء، وهو نفس الطريق الذي كان يستخدم منذ آلاف السنين، طريق الأربعين، سمي كذلك لأن قَطعَة يستغرق أربعين يوماً أو لأن به أربعين بئرا، قال لي رجل نوبي عجوز وهو يشير إلى عشرات الركاب الممددين في ممرات العبّارة: "أيام الملك كانت العبّارة تقوم برحلة يومية وكان لكل راكب سرير، لا ينام راكب أبداً في الممرات".بوصولنا إلى حلفا البديلة، الظل الباهت البائس لحلفا الغارقة، التي ظل النوبيون يذكرون طويلاً مشهد مأذنة مسجدها وهي تغرق يوماً بعد يوم تحت مياه البحيرة، وتغرق معها ذكرياتهم في موطن الأجداد، بدأنا رحلتنا إلى أرض النوبة السودانية. حلفا محطة للعابرين، لا تجد هناك إلا مبان من الطوب اللبن و«وكالات» للنوم تطلق على نفسها فنادق تؤجر الليلة بالسرير، وتنام المدينة أيام الأسبوع عدا يومي قدوم العبّارة ومغادرتها، فتنشط حركة البيع والشراء، وتمتليء المطاعم بالرواد. والكهرباء تأتي من »وابورين« يعملان طيلة النهار ويستريحان من منتصف الليل إلى الفجر، كنا نصحو حين تتوقف مروحة السقف فتأخذ جحافل الناموس في مهاجمتنا بلا رحمة، حتى يعود «الوابوران» للعمل ثانية في الفجر فننام ساعة إلى الصباح كنا لازلنا في بداية رحلتنا في أرض النوبة السودانية، وهي الامتداد التاريخي والجغرافي لأرض النوبة التي تبدأ من أسوان وتنتهي عند بلدة الدبة في السودان.كنا نبحث في أرض النوبة عن ظل الحضارة العظيمة التي قرأت عنها كثيرا قبل أن أبدأ رحلتي، من هنا مرت الشعوب التي شكلت العالم القديم في أوروبا وشمال افريقيا، منذ ما يزيد على المائة ألف عام، ومن هنا ظهرت حضارة مروى ونبتة وكوش وكان ملوك النوبة هم ملوك الأسرة الخامسة والعشرين التي حكمت مصر، الملك طهاركا وبعانخي وشباكا، ولكنه للأسف ظل ميت لم يبق منه سوى أطلال، لم أجد إلا أطلالا، أطلال آثار وأطلال بيوت، ظل باهت لعدة قوى مهيمنة على النوبة، الأرض المعبر، والموطن الأول للحضارة، سواء أكان ذلك بالوجود المادي المباشر كما في حالة الحكومة المركزية، أو بالغربة والبعد عن موطن الأجداد رغم الحنين والشوق، لأهل النوبة المهاجرين، وهم أكثر أهل النوبة، أو بالتأثير غير المباشر لقوة أثرت دوما في النوبة وهي مصر ذلك »الحاضر الدائم« كما أشار الرحالة البرتغالي جينفوا في كتابه «رحلة إلى السودان».لا يوجد ما يدل على وجود »الدولة« بخلاف رجال الشرطة - إلا »الزلط« بلغة النوبيين، وهو الطريق الأسفلت الذي يربط بين حلفا في أقصى شمال السودان بالخرطوم قاطعا مسافة تزيد قليلا على التسعمائة كيلو متر، وهو طريق لم يمض على إنشائه إلا عدة سنوات، وقبله كان الطريق الترابي هو الوسيلة التي تربط الشمالية مع العاصمة، بالإضافة إلى قطار العَذَاب الذي كان يقطع تلك المسافة في 24 ساعة رسميا وعدة أيام قد تصل إلى خمسة فعليا، دون حمامات أو فراش للنوم، تم الغاء القطار واستبدل بعربات »بولمان« سريعة تقطع المسافة في أقل من يوم، كان إنشاء الطريق أساس الحملة الانتخابية لحزب البشير في الانتخابات الأخيرة، بينما أخذت المعارضة في تعديد عيوب الطريق وكيف أنه أنشئ من مواد غير مطابقة للمواصفات الفنية، كان ذلك محل الهجوم على حزب الحكومة في السودان! سمعت ذلك في اجتماع انتخابي في مدينة حلفا لحزب الترابي، كانت قوات الأمن الشبيهة بالأمن المركزي في المحروسة تحيط الاجتماع الهزيل بعدد يفوق عدد الحاضرين.كان من المدهش أن أرى في القرى التي زرتها الكثير جداً من البيوت والقليل جدا من السكان، يشير مرافقونا: هذا بيت الأستاذ فلان، بناه ولم يأت منذ عشرين سنة، أو هذا بيت الأستاذ كذا الذي أرسل النقود لأقاربه ليبنوه له ولم يره حتى الآن فهو يعيش في كندا، بيوت بلا نوافذ أو أبواب، حوائط سميكة من الطوب اللبن لم تكسي بملاط فأضافت إلى الأطلال القائمة القديمة أطلالا جديدة، في بعض الأحيان لم نكن نستطيع أن نميز بين البيوت والأطلال الأثرية. إنها ظلال باهتة ميتة للتكنوقراط والانتليجسيا والعمال النوبيين الذين استوطنوا العالم وظلوا يحملون حبا لا شك فيه لوطن جميل دون أن يترجم هذا الحب إلى وجود حقيقي.ظلت عِبارة «انتم المصريون» تواجهني أينما حللت: أنتم المصريون أغرقتم أرض النوبة كي تتمتعوا بالكهرباء، انتم المصريون لم تعطوا أهل النوبة التعويض المناسب حين طردتوهم من بيوتهم، كنت أحاول دوما أن أشرح: المصريون ليسوا الحكومة، المصريون شيء وحكومتهم شيء آخر، قصصت عليهم كيف تضع الحكومة المصرية سكان البيوت الآيلة للسقوط الذين تم إجبارهم على ترك بيوتهم في خيام، وتتركهم هناك، وان ذلك يتم في قلب القاهرة! إن ما حدث للنوبيين يحدث مثله للفقراء في مصر. ظللت أواجه بالعبارة المكررة في كل جلسة ضمتنا وأهل القرى في فركة او مفركة او سركمتوا او باجة او صاي، يقولون انتم المصريون وأقول ليس المصريون كلا واحدا، حتى اكتشفت أن وراء اللوم عتابا يحمل حبا وإشفاقا على حال مصر ، ويحمل إدراكا عميقا لعلاقة تربط مصر بأرض النوبة، علاقة تضرب جذورها لآلاف السنين، إنهم يدركون أن قسوة ما يرونه وسوء الحال وانعدام الخدمات وما تشهده السودان من أطماع شرسة وتدمير منظم لم يكن ليحدث لو كانت الأم حاضرة، لو كان الحال غير الحال، ولكنه زمن مبارك، أصبحت بعدها كلما سمعت العتاب الحزين: أنتم المصريون! أصمت، وعلى الضوء الخافت لمصباح الكشاف كنت أرى وجوها طيبة معروقة حفر فيها الشقاء والكد خطوطه، وجوها رأيت مثلها في قنا وأسوان وسوهاج، كما رأيتها في ملامح وجه اخناتون. كانوا محقين في عتابهم، ينتظرون أن تقوم مصر من كبوتها التي طالت، أن تعود الأيام الجميلة.طالت رحلتي في أرض النوبة لما يقارب الثلاثة اسابيع، كان الناس يسألونني: أتبحث عن الذهب؟ يناديني رجل ملثم الوجه، يسألني بخفوت بلهجة غير ذوبية: تشتري آثارا؟؟ وحين عدت إلى حلفا منتظرا العبّارة كانت مباحث أمن الدولة السودانية في انتظاري، اخذت بخشونة في عربة بوكس من المطعم الى (الفندق) حيث امرت بإحضار أغراضي، ومنها الى مكتب أمن الدولة، حيث وجدت نفسي متهما بتهمة الإساءة الى الرئيس البشير، والرئيس حسني مبارك والدولة السودانية والمصرية، والأوراق تعد لتقديمي للمحاكمة بتلك التهمة، وهي تهمة كانت ستؤدي بي الى السجن مدة تتراوح بين الثلاث والسبع سنوات، كما أخبرت، وهو يعد حكما مخففا على كل الأحوال، فنحن ولله الحمد نعيش أزهى عصور الحرية في وادينا الجميل شماله وجنوبه، وكانت لرسالة قصيرة أرسلتها خفية من هاتفي المحمول إلى أخي في دولة قطر من العربة التي كانت تندفع بي مسرعة في الشوارع الترابية لمدينة حلفا في طريقها الى مقر أمن الودلة، أخبره فيها أني في قبضة مباحث امن الدولة السوداني حتى يعرف أين أنا حين تنقطع اخباري، كان لتلك الرسالة فعل السحر، اذ كان أخي و(هو مستشار) جالسا مع صديق له قطري يعمل في سلك القانون، يعرف لحسن حظي النائب العام السوداني معرفة شخصية وثيقة، فبادر بالاتصال به، وكانت النتيجة أن رأيت فجأة وانا بين أيدي الضباط تغيرا في المعاملة، بعد أن كنت أرى نذر الشر في أعينهم، وتحولا في الحديث، وبدلا من السؤال المحرج عن رأيي في السيد الرئيس مبارك، وهو رأي لا يسر بطبيعة الحال، كان سينتهي بي حتما الى مالا يحمد عقباه، أخذنا نتناقش في هل توجد لغة نوبية مكتوبة ام لا، فتعجبت من تغير الحال، ولم أكن أعلم بعد (بالفزعة) التي قام بها الصديق القطري، وسأعود الى تفاصيل احتجازي الذي تم ايضا على أيدي مباحث أمن الدولة المصرية لدى خروجي ودخولي المحروسة والسودانية لدى مغادرتي السودان في مقال تال، وما رأيته في بلدنا الجميل، أرض النوبة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق