وانسابت وحدات النقل النهري على صفحة النيل الخالدة متجهة إلى مراسي "دابود"..وهناك بقرية "دابود" عاش موظفو الإدارة أكثر من قصة وشاهدوا أكثر من دراما..
لقد أزفت ساعة الرحيل عن الأرض التي عليها درج النوبيون وعاشوا ومن قبلهم عاش آباؤهم منذ ألوف السنين..العيون دامعة.. والوجوه شاحبة.. والأنفاس منقطعة.. والصورة عامة تحكي قصة حب عنيف ووفاء أحد طرفيها أرض النوبة وطرفها الثاني النوبيون..
عم "دهب" هذا النوبي العجوز الذي جاوز التسعين من عمره يحمل حفنة من تراب الأرض التي عشقها وعاش عليها وفي حنان وإعزاز يضع حفنة التراب في قطعة قماش ويضعها في جيبه..
و "عايشة" الأرملة الشابة.. ترتجف كلما نظرت إلى الغرب حيث يرقد زوجها المتوفى هناك.. هناك بين الرمال على أرض النوبة.. وفي لهفة ووفاء تأخذ آنية بها ماء وتتجه إلى المقابر لتسقي تراباً حوى جسد زوجها منذ سنين..
و "أم النيل" هذه الصبية اليافعة التي فقدت أباها وأمها منذ سنين وعاشت سنوات عمرها على ذكراهما ممثلة في المسكن ذي الحجرة الواحدة الذي بناه أبوها بيديه قبل وفاته.. إنها تمسح خديها بحائط المسكن الذي أخذت حبات الرمال تنساب عن حوائطه ذائبة بتأثير حرارة التنهدات وسيل الدموع..و "ربيع" هذا الطفل الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره بعد.. لقد افتقده أبوه وبحث عنه طويلاً فلم يجده.. وأخيراً وبعد طوال البحث وجده جالساً بعيداً عن النجع وراء صخرة يناجي كلبه الصغير الذي أبى عليه وفاؤه إلا أن يلازم صاحبه حتى الموطن الجديد
.لقد عاشت القرية نهارها وليلها في "دراما" حية.. ففي كل ركن من أركان القرية ذكرى.. وعلى كل حبة رمل أثر من آثار الماضي القريب والبعيد.. وحاول موظفو الإدارة العامة للتهجير ما أمكنهم تخفيف ألم الفراق عن النوبيين، بيد أن العاطفة كانت أقوى من كل منطق.. كما أن منظر الأثاثات يحملها النوبيون على أيديهم ورؤوسهم ويهبطون بها بين دروب الجبال كان يثير عاطفة الموظفين أنفسهم ويزيد من تأثر وحساسية النوبيين.وما أن وصلت أولى مراسي قرية "دابود" أول وحدة نقل حتى كان موظفو الإدارة العامة للتهجير قد انتهوا من الإشراف على تجهيز جميع المنقولات وإعدادها ونقلها إلى المرسى، وصرفوا إلى كل أسرة مساعدة التجهيز التي هيأت لها إعداد أثاثاتها للنقل ومساعدة التغذية لتغطية نفقات غذاء أفرادها أثناء الرحلة.وبدأت عملية الشحن في دقة ونظام.. ونقلت الأثاثات وضمنها الصناديق الخشبية الكبيرة التي لم تغادر أرض النوبة منذ أجيال إلى مخزن السفينة.. وموظفو الإدارة العامة للتهجير هنا وهناك.. يستعجلون المتخلف.. ويبحثون عن الغائب ويتمون عمليات الصرف.. ويشتركون في ترتيب الطرود بالسفينة.. ويراجعون كشوف أسماء الأسر على البطاقات التي تحملها الأسر.
وباتت قرية "دابود" ساهرة تنتظر مطلع يوم 18 أكتوبر 1963.. النوبيون فرادى على قمم الجبال المحيطة بالقرية والنجوع تلفهم أردية الظلام يلقون النظرة الأخيرة على أرضهم العامرة بذكريات الطفولة والشباب.. والنوبيات بأزيائهن القاتمة يزرن في عتمة الليل مقابر الأهل والصحب والجار حيث يطلقن لأفكارهن عنان الحياة في الماضي البعيد والقريب.
وتدق ساعة الزمن معلنة مطلع أول أيام النقل 18 أكتوبر 1963.. فيتوافد النوبيون على السفينة .. ويشرف موظفو التهجير على ركوبهم وشحن أثاثاتهم بها..وحين خلا الشاطئ من كل أثر للحياة.. قام موظفو التهجير بمراجعة أسماء الركاب على ما يحملون من كشوف.. وأصدروا تعليماتهم الأخيرة بعد إطمئنانهم على وجود الركاب وأثاثاتهم على السفينة..
وتطلق السفينة صفارتها في نغم حزين.. لينعكس الصوت على الديار الخالية حاملاً الصدى إلى الآذان قبل بدء الرحيل.. وينطلق طائر أبيض من بين المساكن المهجورة ليحوم ويدور مرفرفاً بجناحيه فوق السفينة كأنها يقدم للمهاجرين قبل بدء رحلة العمر تحية وفاء ومعزة و وداع.وتتحرك السفينة من مرساها في بطء متجهة إلى الشمال.. والنوبيون فوقها مولين وجوههم جهة الشرق، تشد عيونهم وانتباههم وأحاسيسهم المساكن الخالية التي غادروها منذ فترة وجيزة لآخر مرة.. وموظفو التهجير يحاولون صرف انتباهم إلى الشمال حيث الموطن الجديد في هذه اللحظات المؤثرة
منقول
النوبة القديمة
فى 18/10/1963
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق