الاثنين، 5 نوفمبر 2012

قطاع طولى فى حياة حليمة آتى ( عن أخر ميت فى ادندان .. )


قطاع طولى فى حياة حليمة آتى
( عن أخر ميت فى أدندان .. )


مـُــفــتــتــح
أدندان
 مارس 1899
(1)

فى تلك اللحظات الفاصلة من الزمن  أختلف الأمر فى ادندان او اندان كما يُسميها أهلها
ادندان قرية نوبية تقع على ضفاف النيل النوبى فى المنطقة ما بين مصر والسودان  فوجىء أهلها  فى احد النهارات الكئيبة من مارس 1898 بقدوم تجهيزات عسكرية وموظفيين حكوميين وجرت حركة غير عادية فى هذه القرية الهادئة البعيدة جداً عن المركز و السلطة . تجمع أهل القرية البسطاء  حول موظفين يقومون بعمليات مسح جغرافى وتصوير أبعاد  وحصر ممتلكات وتعداد سكان وقياسات على اراضى وبيوت القرية .. وأنتهى الأمر بأن قاموا بوضع حواجزهم ومعداتهم بعد أحد البيوت بالتحديد بعد بيت جمال دوكى .. ثم قامواً بتعليق سارى طويل فوق جبل القرية
(2) العالى  الشهير ذو القمة السوداء والذى يفصل نجع شفاين عن فرص شرق ورفعوا عليه علم المملكة المصرية وبعد 200 متر بالضبط وعند أول بيت فى نجع فرص بعد الجبل مباشرة وبالتحديد عند بيت دهب دوكى شقيق جمال  قامت اعداد مماثلة من الموظفين بوضع حواجز حديدة ورفعوا أيضأ سارى أنتهى بعلم الأمبراطورية البريطانية  .. وفجأة وخلال دقائق قليلة بات الأب والابن والأخ والأخت يفصل بينهم خطأً وهمياً لأول مرة منذ أن عاشوا على هذه الارض  .. و صار البعض مصرياً والبعض الأخر ســُــمّى سودانياً بعد أن كانوا نوبيين فقط . وصار نجع شفاين اخر نقطة على الحدود المصرية واصبحت فرص شرق اول نقطة فى الحدود السودانية .

ادندان
 ابريل 1964 (3)
قــطــاع أول
 (سـلـيـمـان شفا)
فى ترجله من أول القرية لأخرها من نجع ألجمة مروراً بنجوع (4) اميسيرين , دفّيتاوّو , آرتى , غالين , كاسا و شفاين كان مذكراً ومنبهأ على كل البيوت بوجوب الألتزام بالموعد المحدد للرحيل وعدم التهاون فى هذا الأمر , كانت تحدثه نفسه  بعبثية ما يصنع .. كيف وضعته الاقدار فى هذا المكان .. رسول الهجرة ..!!  ويا لحماقة  ان يشدد على أهله بضرورة الألتزام بالرحيل وترك البيت والزرع والنخيل والنهر والوطن الذى ما فارقوه ابداً قبل ذلك .. نازعته افكاره تلك حتى وصل لأخر بيت قبل حواجز حرس الحدود .. بيت عمه خليل شفا وزوجته حليمة آتى الذين يعيشان وحدهما  بعد أن حرمهم الله نعمة الإنجاب ولكن عوضهم بنعمة اكبر وهى الحب .. فالقرية كلها ليس لها حديث امتع من حديث خليل وحليمة وقصتهم التى حجزت موقعها فى قطار العشاق بجدارة بجوار قصص قيس وليلى وروميو وجولييت وغيرهم من اساطير العشق والوله  .. طرق الباب الخشبى العتيق وهو ينظر بحسرة لتلك التحفة الفنية المرسومة على جدران البيت والنقوش الزرقاء التى تذهب العين وتقى من الحسد وكيف انها مع لون البيت الابيض تشكل جدارية توصف وتحكى عن رهافة حس وعشق للفن والحياة بما لا تمنحه اى كلمات
قطع استغراقه فى تفكيره صوت حليمة آتى وهو تنادى ..  هـــوي
(5)

قــطــاع ثــان
(خــلــيــل شــفــا)
بعد قصة حب طويلة وملحمية استحقت ان يأتى ذكرها فى غزلية (أسمر اللونا)(4) اشهر غزليات العشق فى الغناء النوبى تزوج خليل شفا من حليمة آتى فى بيت جمال دوكـّى والد حليمة آتى هذا البيت الكبير الذى يقع اسفل سفح جبل القرية العالى الشهير ذو القمة السوداء والذى اهداه جمال دوكـّى لابنته حليمة . خليل إنسان بسيط جداً لا يعرف غير البيت و حليمة والحقل حيث ارضه التى ورثها عن ابيه وبضع عشرة نخلة كان اخوه الأكبر ابو سليمان قد اهداها اياه عند زواجه .. كانت حياته عنوانها البساطة والحب والعمل وفقط . حتى اتت احاديث التهجير بوقعها الثقيل .. " كان مالنا أحنا ومال الهمً ده كله " زفر  بتلك العبارة ذات مرة  بعد اجتماع مطول فى ديوان عمدة القرية لترتيب تعويضات الاراضى والوثائق الرسمية وحجج البيوت والأختام والمواريث ومواعيد الرحيل والارض التى سيتركها إضطراراً بعد عدة اسابيع .. تراكمت عليه الهموم حتى سقط مريضاً بالحمى ولم يعد يدرى ما يحدث حوله .. أوقلّ لم يعد يرغب فى الأشتراك فى احاديث من ذلك النوع ..
سقط حتى لا يشارك فى أحاديث تدور حول تغسيل وتكفين ودفن تراب وطنه

قــطــاع ثــالــث
(حــلــيـمـة آتــى ..)
لم تنم ليلتها فقد سهرت بجوار خليل بعد أن داهمته الآم الحمى طوال ليلة أمس وظلت تبرد وجه بكمادات الماء البارد بلا جدوى , وساءت حالته حتى انها هرولت نحو الحاجز الحديدى الخاص بقوات حرس الحدود المصرية  تطلب منهم العبور لبيت أختها زينب آتى لتستنجد بها وبزوجها ليلحقوا  بخليل الذى تركته فى حالة إعياء تام وشبه فاقد لوعيه وسريعاً خرجت معها زينب آتى و عوض زوجها يسبقهم ابنهم دهب الذى سمى بذلك تيمناً باسم جده دهب دوكى حتى وصلا لبيت حليمة وخليل .. الذى ما وإن رفع المؤذن لصلاة الفجر كانت قد استقرت حالته . وظلوا بجواره حتى  أنفلج نور الصباح و أطمأنوا عليه  وقام عوض وزوجته ودهب راجعين لوطنهم الذى يبعد عن بيت حليمة مسافة 200 متر . حكت حلمية أحداث تلك الليلة لــ سليمان الذى عاتب زوجة عمه كثيراً كيف لم تخبره بما حدث .. وبررت حليمة موقفها بأن الوقت كان متأخر جداً وأن الذهاب لبيت زينب آتى وعوض فى نجع فرص بعد الحاجز اقرب كثيراً من الذهاب لنجع آرتى حيث منزل سليمان . دخل سليمان للأطمئنان على عمه الذى مازال يعانى من أعراض الحمى ولم تفلح معه كل الوصفات الشعبية القديمة التى يوصى بها المارين على حليمة بين اللحظة والأخرى وان كانت حالته مستقرة ويستطيع التعرف على من يحدثه ولكن بصعوبة وبعد أن تكلم مع عمه قليلاً . خرج ..  وبدأ يحدثها بالأمر الذى من أجله جاء . نبّه  سليمان علي  زوجة عمه ان الصندل المخصص لتهجير النوبيين انتهى من تهجير القرية المجاورة (بلانة) (7) وجاء الدور على قريتهم ادندان وسيتم تسيير سبعة رحلات بواقع رحلة لكل نجع على حدة وسيكون نجع شفاين اخر النجوع المغادرة بعد اسبوع وعليها الأستعداد من الأن و تجميع ما تستطيع جمعه من اثاث المنزل والقيام بعمليات التربيط والتحزييم ونقل الأمتعة إلى أسفل عند الضفاف , ولما نظرت حولها للعنقريب (8) ومتاعهم وحاجاياتهم الكثيرة سقطت فى حيرة كيف لها أن تقوم بنقل كل هذه الأمتعة بمفردها والنزول بها إلى الضفاف فأخبرها سليمان سريعأ انه سيأتى لمساعدتها فى عمليات التحزيم والنقل وعليها أن تنسى الأمر وتهتم فقط بالعناية بصحة خليل . ردت عليه حليمة فى أسى
" هو ايه اللى بيحصل لنا ده .. أنا مش فاهمة؟؟  " وحكت له عن أختها زينب آتى  التى تستعد هى الأخرى للرحيل بعد أن أمرت الحكومة السودانية بتهجيرهم إلى خشم القربة ( حلفا الجديدة ) الواقعة شرقى السودان بسبب تضرر مدينة وادى حلفا (9) وغرقها بالكامل إثر بناء السد العالى وحجز المياه خلفه مكوناً بحيرة صناعية عظيمة هى الأكبر فى العالم .. جزعت حليمة كثيراً لما علمت ان المسافة بينها وبين اختها زينب آتى لن تكون مجرد حاجز حديدى يمكن عبوره .. وإنما ستفصلهم أميال وحدود واوطان وتصاريح سفر وبحيرة عظيمة .

مـُــنــتــصــف

أدندان فى ..
( يـُــــوم الــرحــيـــل )
جاء اليوم السابع وجاء الدور على أهل نجع شفاين وعبرت زينب الحاجز الحديدى الفاصل بين الحدود المصرية السودانية لأخر مرة  كى تودع اختها ..
كان سليمان بمفرده  بعد أن ارسل زوجته واولاده برفقة امه مع فوج نجع آرتى الذى رحل من يومين حتى يساعد عمه وزوجته فى التجهيز للرحيل .. وتوجه صوب منزل عمه وشاهد على المدى حليمة آتى وهى تحمل العنجريب فى عناء واضح  بمساعدة احدى جاراتها وتهبط به عبر طريق وعر صخرى حتى تصل لضفة النهر .. فأسرع وذهب إليهم وتناول العنقريب منهم ونزل به إلى حافة النهر فى إنتظار وصول الصندل . فى هذا الوقت كان معظم أهالى النجع يقومون بنفس العمل تقريباً وأصبح مَرسَى القرية النهرى  يكاد يختفى وراء أمتعة وأغراض  أهل النجع , أغنامهم , صناديقهم العتيقة , اوراقهم , طعامهم , ملابسهم , كل شىء . أنتهت حليمة من كنس ارض البيت جيداً وملء الأزيار وغلق ابواب الحجرات بإحكام   .. ولم يشأ خليل الذى جلس يراقبها من بعيد  أن يخبرها أنهم قد لا يتمكنوا من استقبال ضيوف أو زوار عندما يستقر البيت فى قاع البحيرة  حتى تنصرف بإخلاص هكذا فى ترتيب وتنظيف البيت  . خرجوا من البيت وساعدها خليل فى غلق الباب الكبير ووقف سليمان ينتظر أنتهائهم من مهمة لا داعى لها فغلق الباب بالمزلاج الحديدى الكبير لن يمنع صعود الماء من على السقف لكى تغرق المنزل والنجع والقرية والنوبة بأكملها . ثم أتجهوا إلى الجبانات التى تقع بمحاذاة الجبل الشهير ذو القمة السوداء لكى يقرأوا الفاتحة لأمواتهم للمرة الأخيرة . وأصطف أهالى القرية على الضفاف وعيونهم شاخصة نحو البيوت الفارغة فى نجع كاسا الملاصق لهم الذى رحل أهله عصر يوم أمس . وانشغلوا فى متابعة السكون المميت الذى يلف النجع منذ رحل أهله .. كانت فى الأفق تتردد اصداء اصوات أهل نجع كاسا و صيحات أطفالهم ساعة عصارى فى وصلة مرح ولهو امام البيوت .. غلب على المشهد صوت تخبط جريد النخيل فى النجع الخالى بفعل الرياح وبداً مخيفاً ومفزعاً لأول مرة ..كان صوتأً منزوعة منه رائحة الحياة . لحظات و سمع الجميع صوت صافرات الصندل  , وظهرت مقدمته أخيراً, وسرح الجميع فى مصير ينتظرهم بعد الركوب ورانت لحظة صمت طويلة وأعين اهل النجع معلقة بالصندل . وخاطر واحد فقط يشغل روؤسهم لا شك .. هل سنرحل حقاً  ؟؟ بدأوا فى تحميل الصندل ببطء غير مبرر ودعة واضحة وإهمال ظاهر . كانوا سكارى وماهم بسكارى . الأغنام والبهائم  كانت اول ما ركب فى  الصندل ثم أتبعوها بالأغراض والمنقولات . وأستغرق ذلك وقتاً طويلاً بعض الشىء وكانت التعليمات وقتها توصى بعدم إبحار أى صندل بعد غروب الشمس .  وانتهوا من تحميل كافة الاشياء وتقدم خليل مستنداً على ذراع رفيقة حياته فى إنتظار مشاركة اغنامهم مقاعد الصندل القديم المتهالك , حتى نادى الموظف القائم على التهجير بأن الصندل لن يتحرك فالشمس قد غربت بالفعل , وعليهم الأن ترك امتعتهم بالداخل كما هى والأنتظار حتى بزوغ فجر اليوم التالى حتى يتمكنوا من الإبحار . ولم يدرك الناس هل يفرحوا أم يحزنوا بعد أن رتبوا كل امورهم على الرحيل اليوم .. أعتقد غلب عليهم شعور الفرحة .. بضعة ساعات اخرى سنقضيها هنا . رجعت حليمة آتى وخليل شفا الذى ساءت حالته كثيراً إلى بيتهم الخالى من أى شىء .. وعلمت حليمة آتى الأن لماذا كانت تحرص على ملء الأزيار بعد أن طلب منها خليل شربة ماء ..
على الضفاف بقى بعض من الناس يتناقشون حول ما ينتظرهم فى كوم امبو(10) او وداى الجن الذى أعلنت الدولة أنه الموطن الجديد لهم .. أثناء الحديث اشاع احدهم أن وادى الجن سمى بذلك الاسم لأن النبى سليمان كان يستخدمه فى حبس وسلسلة ملوك  الجان العاصــّــين لأوامره كما يُشاع . وأنه عبارة عن صحراء جرداء . وأنه لا يوجد فيها مصدر للماء وأن البيوت عبارة عن علب اسمنتية قبيحة و و و و .. لم يرد أحد  وخيم الصمت على المكان وإن كانوا اصابتهم بعض الغضة من الحديث وتمتموا فى انفسهم "ربنا يستر" .. وتناول سليمان شفا طرف الحديث قائلاً أن الدولة رفض إقتراح الحاج محمود السيالى بنقلنا عرضاً على جانبى النهر بدلاً من النزوح شمالاً .. وفجأة دوى فى الفراغ صوت صراخ  قادم من ناحية الجبل .. التفت الرجال للخلف .  
كان صوت حليمة  وقال سليمان فى نفسه ...  خليل شفا ..
قام من موضعه مسرعاً وجرى ناحية البيت وسرعان ما دخل ليجد عمه خليل ممدداً بين ايدى حليمة آتى .
حلـــــــيمـــــــــــــة ,,, منّ دراى
(11) .. ؟؟؟؟؟؟
لم يرضى خليل بغير ادندان ارضاً وموطئاً أخيراً .
ولم يمر وقت طويل حتى أمتلأ البيت بالنساء والرجال من اهل القرية وتحلقت النساء حول حليمة مُعزّيين ومُواسين وهم مقدرين لحجم مصيبة حليمة وقسوة فراق خليل عليها . وأخذ الرجال يشرعون فى اجراءات الغُسل وتكفين الجثمان على ضوء الكلوبات  التى تعمل بالجاز بعد أن خيم الليل على القرية .
وهنا بدأ السؤال الصعب يدق روؤس الجميع ... اين سندفن خليل ؟ هل ندفنه هنا ونرحل بعد دقائق من دفنه ونتركه لمصير الغرق المحتوم ؟؟؟ ام نأخذ الجثمان معنا للموطن الجديد ؟؟؟
وسأل الحاج فاروق شيخ البلد موجهاً كلامه لــ سليمان .. ما العمل الأن .. ؟ رفض سليمان فى البداية فكرة ان يدفن عمه فى ادندان وهو يعلم ان المكان بأكمله فى غضون ايام سيكون قاعاً لبحيرة النوبة ...
"لا يا حاج فاروق احنا هناخد الأمانة معانا .. وندفن هناك ان شاء الله"
وبدأ الحاج فاورق فى ذكر عواقب الأنتظار حتى الوصول لكوم امبو ..
"يا سليمان يا ابنى الصندل هياخد لغاية المينا فى اسوان حوالى 10 ساعات .. وبعد كده هننزل ونأخد الاتوبيسات وهنقعد يجى  ساعتين كمان لغاية ما نوصل كوم امبو" . 
وتسلم طرف الحديث ادريس صدّيق سليمان من ايام الطفولة ..
"يا سليمان احنا دلوقتى فى شهر ابريل والدنيا حر .. وبصراحة الجثمان لن يتحمل البقاء فى درجة الحرارة العالية تلك .. لا مفر يا سليمان من الدفن فى ادندان .."
انتبه سليمان ويبدو ان الحجج منطقية بالفعل وزاد هو أيضاً و اوجد لنفسه مبرر اخر ..
"عندك حق .. كفاية ان عمى عاش طول حياته هنا ولما جت لحظة الرحيل مقدرش يتحمل وقرر ان ما يفارقش ادندان حتى لو هيموت فيها"
انتهى الرجال من مراسم تجهيز الجثمان وتوجه نفر منهم نحو الجبانات لتجهيز اللحد وأخبر سليمان زوجة عمه   بقرارهم بدفن خليل شفا فى ادندان . لم تعترض كما تخيل ..
فقط تمتمت يا ترى هعرف ازوره وأقرأ له الفاتحة ؟
لم يرد سليمان ..


مـُـنـــتـــهـــى
ادندان الجديدة  مارس 2009

حليمة آتى فى منتصف العقد السبعينى , وتعيش بمفردها فى بيت بحجرتين احداهما مهدمة ولم تصرف لها الحكومة حتى الأن مصاريف اعادة ترميمها  والاخرى تأويها فى ايامها الأخيرة .. اخيراً قررت حليمة ان تسافر لخشم القربة او حلفا الجديدة التى تعيش فيها الأن اختها زينب مع ابنها دهب الذى تزوج مرتين وأنجب 9 ابناء هم الأن حياة زينب .. كثيراً ما ألحت زينب على حليمة أن تسافر لتعيش معها .. وكثيراً ما رفضت حليمة ..
حليمة قررت بشكل مفاجىء الرحيل للسودان .. والعيش مع زينب فى كنف دهب واولاده التسعة .. بعد أن فقدت الأحباء واحداُ تلو الأخر ..
أخبرها أحدهم ان السفر بالطائرة مكلف بعض الشىء .. وأن العبارة ستكون حل مناسب جداً .
وبالفعل قام أحدهم بحجز تذكرة العبارة من ميناء اسوان لــ ميناء حلفا وبعدها تستقل حليمة الباص حتى خشم القربة شرقى السودان . وتجمعت نسوة القرية يوم الرحيل يودوعون حليمة وداع بالدموع .. لربما يكون الوداع الأخير .
وصلت حليمة لميناء اسوان او ميناء السد العالى كما يطلق عليه فى التسمية الرسمية .. برفقة 3 من شباب القرية العاطلين عن العمل  .. قاموا بإنزال متاعها على رصيف الميناء وعاونها أحدهم فى ختم تذكرة السفر .. وصعدت حليمة إلى العبارة واستلمت مقعدها وصرخت صفارات العبارة معلنة تحركها نحو حلفا الجديدة عبر بحيرة النوبة ..
لما انطلقت صافرات العبارة تذكرت حليمة ذلك المشهد الذى مرّ عليه اكثر من خمسون عاماً لما سمعت نفس الصوت وهى تقف على مرسى قرية ادندان القديمة فى انتظار تهجير اهالى نجع شفاين . استغرقت فى ذكرياتها واستغرقت العبارة فى اختراقها لبحيرة أغرقت معظم تلك الذكريات .. ومددت حليمة بصرها نحو الأفق واللامنتهى حيث البحيرة العظيمة حتى لمحت على المدى البعيد  قمة سوداء تكاد تخرج راسها فوق سطح الماء . تذكرت بيتها القديم عند سفح الجبل الغريق , تذكرت التاريخ الحزين 1964/4/27  يوم الرحيل القاسى
يوم رحيلها عن ادندان ورحيل خليل .. تذكرت خليل شفا
ونظرت للبحر الواسع الــ بلا شطأن  والجبل ذو القمة السوداء .. لحظتها لم يكن بحر فى مخيلتها
 لم يكن بالنسبة لها أكثر من قبر كبير بعض الشىء ..
فقط ...
كان عبارة عن قبر كبير وقرأت الفاتحة لخليل .
انتهت
مصطفى الشوربجى
اسوان فى 1/11/2012
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


هوامش
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ تعديل أتفاقية الحكم الثنائى المصرى الأنجليزى للسودان حيث كان تاريخ الاتفاقية يناير 1899 وتم التعديل فى مارس من نفس العام حيث اسفر التعديل عن قطع 10 قرى و3 نجوع من مصر وضمهم لما يسمى الأن بدولة السودان .
ـــــــــــ
(2) جبل الصحابة والجبل الأن مغمور بالكامل تحت مياه بحيرة النوبة او بحيرة ناصر .
ــــــــــــ
(3) العام الذى تم فيه تهجير نوبيو مصر وحلفا بسبب غرق مواطنهم بفعل مياه بحيرة النوبة
ـــــــــــــــــ
(4) النجوع السبع التى تتكون منها قرية أدندان القديمة .
ــــــــــــــــــــ
(5) هوي .. لفظة باللغة النوبية تعنى .. حاضر أو طيب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(6) أسمر اللونا .. وهى أشهر الأغانى النوبية والتى يغنيها النوبيين من قديم الأزل ومازالت إلى الأن تغنى ويضاف إليها كوبليهات تتناسب مع الحاضر وهى فى حكم الألياذة والاوديسا عند النوبيين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(7) بلانة .. احدى القرى النوبية المجاورة لقرية أدندان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(8) عنجريب او عنقريب .. وتعنى السرير باللغة النوبية ويصنع يدوياً من جريد النخل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(9) المدينة التى تضم الأجزاء التى تم قطعها من الاراضى المصرية بعد تعديل مارس 1899 وتعد من اقدم حواضر العالم القديم وتعادل فى الأقدمية مدينة اريحا ودمشق

(10) كوم امبو .. المكان الذى أصبح الموطن الجديد للنوبيين المصريين .
ـــــــــــــــــــــــ
(11) منّ داري .. لفظة باللغة النوبية تعنى السؤال والاستفهام





هناك 5 تعليقات:

  1. رائعه جدا ... و مشهد الافتتاح الخاص بالتقسيم مشهد مميز مظنش حد رسمه قبل كده اول مره اتخيل مشهد التقسيم فعليا ... مشهد الوفاه و الدفن و مزجه مع الرحيل مؤلم جدا و مؤثر جدا .... اظن انه عمل يستحق النشر لو كنت رئيس تحرير او مسئول عن اى مطبوعه اظن انى كنت حنشره بدون تردد

    ردحذف
  2. اشكرك جدا ياثروت ...
    ملناش حظ نشتغل فى مجال بنحبه يا ثروت والله

    ردحذف
  3. مؤثرة جدا لأحوال اجدانا رحمهم الله تعالى

    ردحذف
  4. استاذ مصطفي
    احيك علي اسلوبك الرائع في كتابة القصة ووصفك للاماكن بكل ابداع
    واتمني التواصل
    خليل ادم شفا
    01146500047

    ردحذف
  5. حياك الله نتمنى التوفيق والنجاح إن شاء الله
    فى كل أعمالكم

    ردحذف