السبت، 5 يناير 2013

أســـوان ... القبلة جهة الجنوب قليلاً




1- كــنــــوزنـــــا .. اجـــدع نــــاس

على طريق مصر اسوان الزراعى . نعبر مزلقان
للسكك الحديدية وتعلن لافتة زرقاء عن نهاية الكاجوج أحد قرى الجنوب  وبداية قرية جديدة . تصطف على يسارك بيوت نظيفة متشابهة ذات دور واحد علىالأكثر تحمل كلها اللونين البيج والبنى كإشارة مميزة لبيوت نوبيو التهجير .. و على المدى تلمح  ثلاث سيدات يقفن قبالة أحد المنازل الذى تجلس صاحبته على المصطبة فى دعة ولامبالة تواصل حديثها مع ضيوفها  , المشهد ينم عن زيارة إنتهت توا , ولكن فى عادة فرعونية على الأغلب يستمر التسامر على باب المنزل , الذى انفتحت احدى ضلفتيه على صالة البيت التى ينبعث منها ضوء اللمبة النيون القوى فى ظلمة الليل  كأشفاً عن أثاث مرتب وأنيق  .. الزائرات يبلسن زى موحد عبارة عن ثوب أبيض رقيق ملفوف , يعلن عن نوبيتهن القحّ . والمهتم بالتاريخ النوبى القديم يرى المشهد بشكل أعمق قليلاً , حين تستدعى ذاكرته خلفيات هذا الثوب ويترائى امامه مشهد جحافل ود النجومى وهى تمارس مذابحها فى بلاد النوبة فى نهايات القرن التاسع عشر.
 أمتار قليلة وتتلقفنا لافتات أخرى تعلن عن قرية وراء قرية
ماريا .. مرواو. ..  جرف حسين . ويتوقف الميكروباص لينزل أحد ركابه , وتتاح لنا فرصة متابعة احدى القرى عن قرب  حيث زينات الاضواء بالوانها الزاهية معلنة عن ليلة فرح فى القرية ولا ينتهى المشهد حتى تلمح  صف من سيارات الدفع الرباعى مختلفة الاشكال والأحجام حاملة للوحات مرورية جمركية .. بطعم النفط .


2- الفوزة ...  


على نفس ذات الطريق السريع و عند قرية الفوزة مركز ادفو .. القرية التى يقيم بها بعض نوبيو تهجير عام 33  تتراص بعض المركبات الصينية الصغيرة المنتشرة فى مصر والتى لم تنجو منها اسوان ومراكزها , ترى ذلك الشاب الصعيدى ذو الجلباب الداكن والقامة النحيلة الطويلة ينتظر زبون لا يأتى بسهولة فى ذلك الوقت من المساء ,  فجلس داخل مركبته ينفث دخان سيجارته الملفوفة وينفق  دقائق إنتظاره فى الإستماع للبروفسير السودانى  عبد الكريم الكابلى وهو يشدو بــــ كل الجمال   .. هكذا وبكل بساطة !!!
فعل ما فعله  وهو لايدرى ماذا فعل بك عندما أرتكب فعلته هذه  .. حيث تنصرف داخلك وتضرب أخماساً فى اسداساً  محاولاً
الإجابة عن سيل من الأسئلة المركبة والجدلية من نوعية ..
 ما علاقة المكان بالهوية ؟ حدثنى عن المزاج السمعى فى الجنوب وأختلافه كلياً وجزئياً عنه فى الشمال ؟
أخبرنى أيهما أقرب لهذا الشاب بحسابات الزمان والمكان والوجدان ... وادى مدنى  أم وداى النطرون ؟ .
بالضبط نفس الموقف حرفياً عند موقف النقل الداخلى فى اسوان
عندما تتداعى إلى أذنيك دقات السيرة يتبعها صوت رخيم وقوى " جنا الباباى .. يا جنا الباباى "
وتسأل نفسك حينها لماذا سمعت جنا الباباى ولم أسمع طاير يا هوى ؟؟
وتستدعى ذاكرتك اوجه مقارنة لحظية بين كمال ترباس ومحمد رشدى . وتنتهى أمام حقيقة تترسخ
أن الأوطان والإنتماءات أبداً لا ترسمها خطوط على خريطة صماء .. القصة  أعقد بكثير من خط رسمه مستعمر  .

هناك فى مصر العليا .. يتناسب طردياً الوصف مع الموصوف
 اهل الجنوب رايـــــقـــّـــيـــــن .. وعـــالــيــيـــــن 
بكل ما تحمله ولا تحمله الكلمة من دلائل و صور . المزاح والضحك والسخرية أسلوب حياة لديهم
 أهل اسوان بمراكزها وقراها وعموديتها  , على ألسنتهم كلمة واحدة من 5 حروف ..
كلمة من 5 حروف تسمعها من ادفو شمالاً حتى ابو سمبل السياحى جنوباً .. لفظة سخرية ومزاح على لسان الجميع  
وجــّـــوجـــــــــا ...
يطلقونها تعبيراً عن إعجاب أو تحية أو حتى لمداعبة فتاة ... أو
لـلا شىء
 يقال أنها وردت أول ما وردت على لسان فوزى مطرب الجنوب فى أحدى وقفاته الموسيقية التى يحفظها شباب الإقليم .. ومن أجلها إنشئت صفحات الفان بيدج لنفس المطرب على الفيس بوك ..  
فوزى ..  الذين يحدثونك عنه وعن وقفاته وعن كى بورده الجديد  و طرق عزفه المبتكرة .. كما يتحدث المسحورون عن ساحرهم وكما يتحدث اهل الصوفية عن شيوخهم وكما يتحدث أهل كرة القدم عن ميسى وكما يتحدث المولوعون بالتكنولوجيا عن جديد الآى فون 5 . اختلفت أو أتفقت معه .. لكنه حالة جنوبية بإمتياز لا تقل عن الجدل الذى صنعه أوكا واورتيجا وما شابهم هنا فى العاصمة
 

3 - كورنيش اسوان ..
 فى اسوان فقط يوجد هذا الإختراع .. تستطيع ركوب آلة الزمن وتنتقل بين السنون 
فبسهولة جداً وبواسطة فلوكة صغيرة وشاب يعرف مسالك ودروب نيل تربى على ضفافه .. أنت فعلياً ركبت آلة الزمن ..
حيث تتهادى بك تلك الفلوكة ذات صباح شتوى دافىء ومشمس وسط نيل اسوان وتمر بك ما بين جزر ووداخل خلجان وفجأة تجد نفسك تبحر فى خور ضيق يطل على ضفتى جزريتينً .
 على اليسار جزيرة تنتمى لعالمنا ولزمننا , يقف عليها فندق ضخم من واجتهه الخلفية . والأخرى جزيرة  تنتمى لزمن سحيق , حيث لا بشر نهائياً . فقط هى عبارة محمية طبيعية يعيش عليها حيوانات مختلفة بلإضافة للأشجار والغابات الكثيفة  . 
اسمها سالوجا . فى سالوجا تجلس فى مواجهة نيل نوبى معطياً ظهرك لأشجار السنط . وللحظة تتخيل  أن يخرج فجأة اخيك الصغير من وسط غابات  النخيل كى يخبرك ان امكم قد انتهت من إعداد طعام الغداء فتعود بصحبة أخيك عبر الحقول ولا تنسى أن تتوقف أمام  شجرة الليمون المقابلة لبيتكم كى تلتقط بعض ثمارها ..
 
وفجأة تنتبه ... اننا لسنا فى عام 1850 وانما فى عام  2012 .
واننا نعيش عهد مرسى وليس عهد الخديوى اسماعيل .
وان النوبة إنتقلت لتسكن فى مكان أخر



4 - عاصمة الفن والإبداع والجمال فى النوبة ... فى أبو سمبل فى حوش بيت تنطق كل اركانه برائحة النوبة حيث الحوش الفسيح والشجرة المزروعة فى منتصفه التى ما إن تراها حتى تتشكل فى مخيلتك رائعة أحمد منيب  ( مشتاقين ) التى كتبها الراحل المقيم بفنه محى الدين شريف  
" جوة البيت هنزرع نخلة ......  تطرح خير وتعمل ضلة " 
تتحلق صُحبتنا  حول صينية المونيوم تحمل اكواب نظيفة لامعة تجاورها صينية أخرى تحمل براد شاى ذهبى اللون و عبوة لبن البودرة و سكرية من البللور وطبق يحمل انتاج البيت من الشريك , ويتطوع أحدنا بتلقيم السكر فى الأكواب ثم يشرع فى صب الشاى حثيثاً حتى يكاد يمتلىء الكوب ليقوم بعدها  بإضافة مسحوق اللبن المجفف .. لبدأ  لون الشاى فى التغير  ويصبح اقرب للون الكهرمان وفى نفس اللحظة تنساب بيننا من التابليت نغمات كى بورد ساحرة يتبعها صوت غازى القوى
 
يااا سلام .. سمرا ايدي صباعك لعوردو اير ايدي صباع لعوردو صباع كون صباع كودودتوتا اسمر اللونا .. الهي نورو اسيجا
لحظتها  .. نتوجه كلنا نحو حمادة حداد  
ونكمل فى نفس واحد مع غازى .. 
ان هداد مغفل ايدي كايوتا واسمر اللونا
" وبعديها علي طول اقفل عين وافتح التانيه واقول يا خوانا احترموني شويه يا خوانا
الوقت الوحيد اللي في حد بيتريق عليا وابقي مستكيف بتريقته " .. حمادة حداد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) 

مقطع من أغنية أسمر اللونا احد أشهر غزليات العشق النوبية
الترجمة للعربية
سمرا قررت لأول مرة تنزل الأرض وتمسك المنجل وتقص الزرع ..
وهى بتقص جرحت صباعها الصغير
الهى يجازيك يا حداد يا مغفل ياللى خرطت المنجل اللى جرح اسمر اللونا


مصطفى الشوربجى
6 اكتوبر - القاهرة
فى 7/1/2012 

هناك تعليق واحد: