الجمعة، 1 أغسطس 2014

نوبيو السبعينيات والثمانينيات واللغة والنوبية

سيدفع كثيراً  هذا الجيل .. عندما يحين وقت الحساب
هو جيل الوسط فى نوبيين قرن الآلام , جيل السبعينيات والثمانينيات
وكلمة جيل فى الاساس تطلق على الفئة التى عاشت عقدها الثانى فى فترة ما , وفى حالتنا هذا هو جيل النوبيين الذين ولدوا فى خمسينيات وستينيات القرن العشرين .  لماذا سيدفعون الثمن .. وأى ثمن  ؟
نعود للقرن السادس الميلادى ..
فى هذا القرن بُشرت النوبة بالمسيحية , وعُمدت على المذهب اليعقوبى وصارت النوبة فضاءاً مسيحياً خالصاً .
وتوقف التدوين باللغة النوبية , واصبحت اللغة القبطية هى لغة البلاد الرسمية وحوصرت اللغة النوبية داخل افواه النوبيين بعد أن غادرت أناملهم , ومنذ ذلك الحين ظلت  اللغة النوبية تـُـنقل بالتواتر شفاهة بين الاجيال . وأصبحت كالأمانة  التى يلتزم بنقلها كل جيل للجيل الذى يليه . فريضة مقدسة , وأمانة ثقيلة إلتزم بها  النوبيون على مدار القرون دون عهد او ميثاق أو إتفاق .
 جيل يسلم جيل امانة اللغة , وينتقل لربه مطمئناً على امانته التى اودعها  بسلام فى وجدان ابنائه

حتى جاء جيلنا .. بطل قصتنا

أبصر هؤلاء الدنيا وتسلموا امانتهم الثقيلة  من جيل ابائهم فى طقس رتيب إعتيادى سلس  ونطقت شفاههم النوبية وعقلتها أذانهم  ثم ادركوا .... أدركوا ابائهم -  أول جيل يهبط من علياء نوبته ويسكن الشمال -  وقد صاروا غرباء العاصمة الذين لا يفقهون العربية .
والذين بدلوا مذكرها بالمؤنث  وحذفوا ضمائرها ورفعوا المنصوب ونصبوا المرفوع وكسروا الحروف .
فباتوا معين لا ينضب من السخرية وسط أهل الشمال من جيرانهم وزملائهم فى العمل 
وعلى شاشات السينما وخشبات المسارح
 ادركوا أباهم هذا الذى سُـمّى بالبربرى الذى يرطن بلغة غير مفهومة , فصار اضحوكة اهل الشمال .
لا شعوريا ومع الوقت ترسخ فى أذهانهم ان عدم تحدثهم العربية جيداً  ..  سُبة ومحنة عظيمة
وهنا تلاقت رغبتان بلا إتفاق ..
رغبة الاب فى ان لا يلاقى ولده مما سبق وعانى منه , فى مجتمع غريب لا يعرف لغته
ورغبة الأبن فى الهروب من مصير الأب , حيث الصورة النمطية الساخرة للأسود الرطّـان بلغة غير مفهومة .
وبات جُلّ كفاحهم , هو إتقان هذه اللغة الصعبة وتطويعها على ألسنتهم .
ونجحوا فعلاً ...  حتى صاروا ينطقوها كأى مصرى عاش فى القاهرة منذ مئات السنين .
فرح أبائهم كثيراً ولما لا ...
فقد نجح الأبناء فى النجاة والإفلات من فخ التلعثم والسخرية , الذى طاردهم طويلاً 
صاروا ذوى لساناً عربياً مبيناً 
ومن ناحية اخرى لفت روؤس الأبناء نشوة الانتصار , عندما ردوا كرامة ابائهم وأصبح من العسير التفريق بينهم وبين أى مصرى أخر بعدما صار اللسان واحداً .. لا سخرية بعد اليوم
وهنا .. إنزوت قليلاً اللغة الأم . ولن ازيد واقول صارت مادة للأحتقار فى دواخلهم حتى وإن لم يظهروا ذلك بعدما أصبحت تلك اللغة مصدر خصب لإهانتهم وتقريعهم على يد الأخر
ولسوء حظهم واكب تلك الفترة مداً قومياً عروبياً . وتبدلت مصر الكوزمبوليتان تلك اللوحة الفنية المبهرة , بتعدد ثقافتها وألوانها ولغاتها إلى بوتقة , لابد وان تنصهر فيها كل الالوان والألسن , وصارت الوطنية تعنى ان المزاج واحد والشعور العام واحد
وكلنا .. كلنا واحــــــــد .. كلنا عرب
يذكر هنا أن جيل الوسط الذى عاش تلك الفترة بتوهجها أصابته حُمّى التوحد والإنصهار أهلته لأن يحتل مؤشرا منخفضاً على المقياس النوبى مقارنة بالأباء او الأحفاد . وإن ظلت صفحة ذنوبهم بيضاء .
لأن كل ما سبق يمكننا حُسبانه ضمن التطور الإنسانى والقدرة على إكتساب مهارات جديدة  كى يستطيعوا التكيف مع بيئة جديدة فـُـرضت عليهم . ولكنهم وقعوا فى المحظور ...
 اللغة لم تصل للأبناء !!!
بقصد او بدون قصد ... بحسن نية او بسوء .. لا فرق .
فرطوا فى أمانتهم التى استلموها كاملة دون نقصان .
لم يؤدوا الأمانة إلى أهلها ..
 توقفت عندهم .. لم تغادرهم .
 استهانوا بالفريضة المقدسة .. نقل الأمانة .
وكانت الوصمة الاقسى ... والتهمة الابدية التى ستظل تلاحقهم ...
 " اول جيل منذ 8 قرون مضت يفشل فى توصيل الأمانة وتسليمها لأصحابها "
خرج جيل ابنائهم - الجيل الثالث بعد اول هجرة -  لا يجد شيئاً سوى مفردات شاردة وكلمات شحيحة .. بعضهم يفهم والباقى لا.
ولكن غالبيتهم  أشتركت فى كارثة غياب اللسان النوبى إلا من رحم ربى  . وترواحت تبريرات الأباء بين عدة أسباب لما حدث ..
كان منها التهجير وتأثيراته
رغم اننا لا نغفل أثر التهجير الكارثى على كل ما هو نوبى ولكن النوبة وعلى مدار تاريخها الطويل تعرضت لأحداث جسام من حروب ومجاعات ودخول ديانات جديدة للمنطقة و تعاقب للمستعمرين على اراضيها إلا أن اللغة ظلت صامدة
وأحيلك ثانية لواقعة أنتشار اللغة القبطية وتحول النوبيين  للتدوين بها . ولكن ظلت اللغة النوبية محفوظة على الالسن على الأقل .
 و أيضا من ضمن هذه المبررات , زعمهم ان اللغة النوبية قد تعيق تقدم مستوى ابنائهم الدراسى , بالذات فى مجال اللغة العربية وهو كلام مردود عليه , بأنهم أنفسهم اتقنوا العربية نحواً وصرفاً , رغم إمتلاكهم لسان نوبى عتيق  .
والأخطر من ذلك هو الفكرة السامة شديدة القبح , والتى لاقت إنتشاراً بين أفراد هذه الجيل المتفرد بفعلته بين كل الأجيال , وهى ان التحدث باللغة النوبية هو سلوك نسائى محض وانه لا ينبغى للرجل ان يتحدث بلغة النساء . والحمد لله ان مثل تلك الأفكار يتم وأدها الأن , بعد انتشرت على يد جيل السبيعينات والثمانينات
و فى النهاية كانت الحقيقة الواضحة و النتيجة البائسة ...
لدينا  غالبية جيل من الأحفاد لا ينطق النوبية , فى سابقة تحدث لأول مرة منذ عهد كوش ابن نوح .
 بقى ان يتحلى نقدنا بقليل من الموضوعية , ونذكر ان هذا الجيل برع على المستوى الإقتصادى 
فى تلك الفترة  كان مثله مثل غالبية المصريين , الذين خرجوا بعد أخر الحروب  حالمين بالرفاهية ومتلهفين على نمط إستهلاكى بدأ يسود تدريجياً . ويزيد الطين بلة عند النوبيين حالة التردى الإقتصادى الشديدة , جراء عمليات إغراق الأراضى والهجرات المتتالية , وضياع عصب إقتصادهم تحت مياه النيل .
 بجانب الإجحاف العظيم فى التعويضات التى تم دفعها لهم  .فأنطلقوا صوب العالم شرقاً وغرباً وانتشروا فى دول الخليج واوربا وامريكا . ومن بقى منهم فى مصر  استطاع بعد اجتياز مراحل التعليم , ان يعمل فى وظائف حكومية مستقرة أمنت لهم دخل ثابت مستقر . وذهب البعض الأخر للعمل فى مجال البنوك وشركات البترول والتأمين التى وفرت لهم مداخيل متميزة . إلى جانب قليل من النوبيين أتجهوا نحو العمل الخاص , و منهم من تفوق بشدة واصبح من السهل التحدث عن نوبيين اعضاء فى نادى المليونيرات .  إلى جانب توجه قطاع كبير منهم إلى إستثمار أمواله فى المجال العقارى , وصار خبر النوبى المالك لبرج او عمارة سكنية يمر بإعتياد و دون إهتمام ., رغم ان خبر مثل هذا فى الخمسينيات مثلا .. يظل مدعاة للتفاخر والنميمة فى جلسات نوبيين هذا الزمان .
ويتمثل أيضاً ذلك النمو الإقتصادى فى ترك غالبيتهم لكثير من المهن الدُنيا , التى أضطر ابائهم لشغلها بداية هبوطهم للقاهرة .
حيث يصعب الأن العثور على بواب نوبى مثلاً , وصار السفرجى النوبى عملة نادرة جداً .
وإن وجد فهو دليل على الرُقىّ الشديد للمكان المتواجد به . بل أصبحت سمعة المكان تعنى وجود السفرجى النوبى
كما تتضح بشدة نتائج هذا العبور الإقتصادى , فى إنخفاض سن الزواج وسط الشباب النوبى والبذخ الملحوظ فى لحفلات الزفاف النوبية . وفى مجال التعليم تبدو المقارنة جلية , عندما نتحدث عن نسبة أمية القراءة والكتابة فى القطر المصرى كله تتعدى الـ 40%   ولا تتعدى نسبتها الصفر داخل المجتمع النوبى . .
بإختصار استطاع هذا الجيل , ان ينمو بمستواه الإقتصادى مقدار ضعفين او ثلاثة اضعاف المستوى الإقتصادى للجيل الذى سبقه
 وإن كان هذا لا يشفع بجانب خطيئتهم الأهم  ..
تفريطهم فى أمانة اللغة النوبية .

نشر بموقع قل بتاريخ 15/4/2014 
لينك المقال فى موقع قل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق