الثلاثاء، 12 أبريل 2011

يوميات مصرى فى أرض النوبة 2 ... بقلم / شوقى عقل


كانت إقامتنا في أسوان في ضيافة الأستاذ حسن الباقر وابن أخيه الأستاذ صلاح، وضيافتهم إلى ما كانت عليه من كرم وترحاب، محملة بود وفرح
حقيقي بوجودنا، وهم أخوال صديق عزيز هو الأستاذ صلاح زكي مراد، أوصاهما بنا، وعائلة الباقر ينتهي نسبها إلى الإمام جعفر الصادق، ولفرد من
عائلة الباقر قصة، فاسمه علي بن زين العابدين وينتهي بلقب جعفر الصادق، ذهب صاحبنا إلى العراق قبل دماره، فإذا به يفاجأ في المطار بضابط الجوازات يصيح حين شاهد اسمه وينادي الآخرين فيقبلون عليه، ويقبلون يديه ويلمسون ثيابه تبركا، وصاحبنا مندهش مما يراه، وأوصلوه إلى حيث يريد معززا مكرما. سألت الأستاذ حسن: هل أنتم شيعة؟؟ قال الرجل مبتسما: لا، بل نحن من يتشيع لنا! أرونا من أسوان ما لم نره فيها من قبل، في رحلة بقارب صغير إلى منطقة غرب السيل، شهدنا النهر صاخبا تفور مياهه، تعترض مجراه صخور جرانيتية سوداء، وجنادل كبيرة تمتد طويلا مشكلة جزرا تتدلى منها أشجار كثيفة تقطع مجرى النهر الغاضب، على إحداها وضعت لافتة: احترس من التماسيح! وعلى الجانب الغربي من النهر شهدنا قرى نوبية بيوتها ملونة زاهية، لم يكن ذلك حقيقيا، فالألوان الفاقعة المبالغ فيها، وضعت بهدف جذب السائحين، وتجسيد الصورة المحفورة في ذاكرتهم عما تفعله سيدات النوبة ببيوتهن، مما لم أشاهده بعدها في قرى النوبة، فلم يكن هناك سواح، ولم يكن هناك من يقوم بالتلوين، لعل السيدات لم يعدن راغبات في كسوة بيوت فارغة خالية من السكان ببهجة زائفة، فلن يراها أحد ، حين ذهبت لحجز مكان على العبّارة سألت الموظفة عن ميعاد قيامها، لم تعطني سوى إجابات غامضة مفتوحة تنتهي بالمشيئة، حتى عرفت في نهاية الحديث أن العبّارة محدد لها الساعة الثانية ظهرا لتتحرك، لم يسبق لها أن تحركت أبدا في ذلك الميعاد، أو في أي ميعاد آخر محدد، الأمر متروك للتساهيل لكمية البضاعة، وتموين الوقود وطقم الميكانيكية واكتمال حضور الركاب، والأولوية.. لأمن الدولة! كانت تتحرك في ساعة ما بعد صلاة المغرب، إذا لم يكن للأمن رأي آخر، فهناك دائما تأخير لأن الأمن يحقق مع أحدهم. كنت متشوقا لمعرفة هل ستتحرك عبّارتنا هذه المرة في ميعادها؟ ومَن مِن الركاب سيكون سببا في تأخير العبّارة هذه المرة عن موعدها، لم أكن أتخيل أن أكون أنا هذا الراكب، وهو ما حدث. ففي اليوم التالي وبعد أن أنهيت إجراءات تفتيش الحقائب، وسط فوضى عارمة ،وسطوة وغلظة رجال الشرطة، وصراخهم في المسافرين، ومصادرة ما يحلو في أعينهم من أغراض، مثل عصا من الأبنوس الأسود اللامع، أو سكين سوداني مقبضه من الخشب المشغول المكسو بالجلد المطرز، وذلك تحت دعاوى الأمن والحفاظ عليه. كنت أنتظر إعطائي جواز سفري لأصعد العبّارة مع الصاعدين، حينما جاءني صف ظابط يخبرني أن مكتب أمن الدولة يريدني. في مكتب أمن الدولة في ميناء السد العالي أجري معي تحقيق عائم ،لا أظن أن من أجراه معي يعرف الهدف منه أكثر مما أعرف، يريد أن يعرف لماذا أريد الذهاب للسودان؟ وهل سبق أن ذهبت؟ وكم من المرات ؟ ولما أجبته بالنفي، لم يبد مصدقا، ولم أكن أدري ما الجريمة في ذهابي للسودان المسمى في الإعلام بالشقيق، ولم يظن أني أخفي عليه (جريمتي) في دخول السودان من قبل؟ كانت على الجدار صورة لمبارك لم أر مثلها من قبل، بابتسامة متفحصة قاسية، طلُب مني الانتظار قليلا بالخارج، طال الانتظار لثلاث ساعات تقريبا، فدخل زميلي بالرحلة إلى مدير مكتب أمن الدولة مطالبا إياه إما بمنعي من السفر أو أعطائى جواز سفري لنكمل طريقنا، وهو ما تم بالفعل بعد لحظات. تحركت العبّارة بعد صلاة المغرب، والساعة تقترب من السابعة، كانت ممراتها وسطحها مملوئتين بالمسافرين وبالحقائب والصناديق الكبيرة والصغيرة، وبضع ركاب أجانب مستلقين في أكياس نومهم على السطح مستمتعين بوجودهم في عالمنا البسيط، وكابينة الدرجة الأولى التي حجزنا فيها لا تشبه بحال حتى كبائن الدرجة الثالثة في العبّارات المثيلة في أي من دول العالم، كان الإهمال وضعف الاستثمار باديين بوضوح في المستوى المتدني للفرش، والحوائط والأرضيات المتسخة والكابينة الضيقة جدا، والحمامات التي لا يمكن استخدامها بحال! كان الممر الضيق المطل على بحيرة ناصر متنفسا جميلا حين يضيق الصدر، والمطعم حين لا يكون مزدحما، يصبح مكانا هادئا للاستماع إلى الحكايات. وصَف لي نوبي عجوز كيف كانت حلفا قبل الغرق، مدينة هادئة بشوارع واسعة نظيفة مسفلتة وبيوت من طابقين، قال: كانت هناك عبَّارة كل يوم وكانت شديدة النظافة، والبحارة و(السفرجية) يرتدون زيا موحدا نظيفا. وصف لي الأشجار والحقول الخضراء التي كان المسافر يراها طيلة الطريق من أسوان إلى حلفا، والقرى والبيوت النوبية الزاهية برسومات الحضارات العابرة، النوبية والفرعونية والمسيحية والإسلامية. حلّت التلال الرملية الجرداء العابسة الموحشة مكان الحقول الخضراء والبيوت وملاعب الأطفال. بعد مضي منتصف الليل، رأيت من بعيد هالة من الضوء تشع وسط ظلام الصحراء، كان الضوء بعيدا والعبّارة تقترب منه ببطء. سألت عنه فقالوا لي: معبد أبو سمبل. كان المشهد غريبا مثيرا، معبد يبعد مئات الكيلومترات عن أقرب حاضرة، لا يوجد حوله سوى الرمال، كيف بنى رمسيس الثاني معبدا على أرض النوبة لزوجته النوبية ،جميلة الجميلات، نفرتاري، إنه (تاج محل) مصر! البحيرة تتسع لتبلغ عدة كيلومترات مابين تلالها المكونة من الأحجار الرملية والأتربة، وتضيق أحيانا بحيث تبدو الشواطئ قريبة، والقمر يضيء المياه الداكنة المتلاطمة، حينما مررنا أمام المعبد الهائل المضاء وسط صحراء ممتدة لا نهاية لها، كان المشهد ساحرا مهيبا، وحوله لا يوجد سوى تلال من رمال وظلام وخيالات من ماضٍ بعيد، كيف يراها النوبي الذي عاش وقضى طفولته وشبابه في مرابعها؟ لماذا بنى رمسيس الثاني معبده هنا؟ أكانت أرض النوبة مليئة وقتها بالبشر المحتاجين إلى المعبد للعبادة؟ قرى ومدن، ورجال ونساء وأطفال، أم أنه الحب! . وصلنا ميناء الشهيد الزبير في حلفا بعد حوالي عشرين ساعة، أي أننا كنا نقطع حوالي عشرين لخمس وعشرين كيلومترا في الساعة، وهي سرعة بطيئة مرهقة، لبثنا منتظرين في العبارة حوالي الساعة ،كانت واقفة على بعد مائة متر من الرصيف، وجاء رجال أمن الدولة في قارب (رفاص) لفحص الجوازات والبحث عما لا أعرفه، وكانت قد تم ختمها على ظهر العبارة أثناء سيرها، ثم رست حيث تمت العديد من الإجراءات بما فيها توزيع أوراق ملونة علينا، والوقوف في طوابير لاستلامها ثم طوابير لتسليمها بعد ملئها ،ثم فحص الجوازات للمرة الثالثة، ثم ختمها أخيرا بخاتم الدخول ومعه عبارة صغيرة بضرورة مراجعة مكتب الجوازات المحلي خلال أسبوع من تاريخه وإلا! في الميناء وعلى المقاهي المنتشرة في ساحة الفنادق، شاهدت وجوها تحمل ملامح عرقية مختلفة، كنت أرى مجموعات من البشر تسير، وتجلس وتتحدث سويا ،متشابهي الملامح، شاهدت وجوها قوقازية، وملامح عربية، ووجوها نوبية أكثر حدة من الوجوه النوبية المعتادة من المحس، ووجوها تحمل ملامحا مختلطة نوبية وعربية كما الكنوز. وفد على النوبة عبر تاريخها بعد دخول الإسلام في مصر الكثير من القبائل العربية المهاجرة ،هربا من الظروف المعيشية القاسية في جزيرة العرب، كانت النوبة موطنا للمماليك الفارين من القاهرة، أو الطامعين، عاش بالنوبة أتراك وشركس وعرب ومجريين وهنود جاءوا قديما لتدريب الفيلة الإفريقية وخلفوا وراءهم الإله الفيل! ذلك بالإضافة إلى التعدد البشري النوبي، ما بين فاديجا وهم أهل نوبة الشمال (مصر) والسكوت ما بعد حلفا حتى أبو فاطمة، ثم المحس، لايعتبر الحلفاويون أنفسهم من السكوت ولا يعتبر الدناقلة أنفسهم من المحس ولا يعرفون الرطانة، في المسافة من حلفا حتى بلدة الدبة قابلت أعراقا مختلفة، كانوا تاريخا حيا لما مر بهذه المنطقة من غزوات وأطماع، منهم من جاء وظل محتفظا بأصوله لا يتزاوج مع النوبيين، كما البجا والعلايقة والشايجية، ومنهم من اختلط بالنوبيين وتزاوج معهم، فأصبح من الصعب تفريقه عنهم فاكتسب عاداتهم وتعلم لغتهم وإلى حد بعيد ملامحهم، كما الكنوز. كانت معنا توصية لرجل يقيم في حلفا ليساعدنا في تأجير سيارة، فاهتم وأحضر لنا سيارة بيك أب حديثة (بكابينتين) كان السعر مبالغا فيه، إذ طلب السائق ستة آلاف جنيه سوداني مقابل رحلتنا إلى الخرطوم، أدركنا أن واسطتنا مستفيد، واستطعنا أن نخفض السعر إلى ألفين وخمسمائة جنيه! وفي اليوم التالي لوصولنا إنطلقنا إلى أول محطة لنا وهي سركمتو، في الطريق مررنا على مدينة عكاشة، وهي مدينة صغيرة منعدمة الخدمات، تطل في جزئها الخلفي على منظر ساحر للنيل، ضفاف عالية رأسية الإنحدار تبدو منها جذور الأشجار ونهر صاخب سريع، تسود أشجار الدوم والنخيل والحنضل وأشجار صغيرة تحمل ثمار مستديرة ناعمة الملمس جميلة الشكل لا فائدة لها. وقفنا لنشرب شايا في مقهى في منطقة تدعي بئر أمبيكول، حيث وجدنا رجلا لدغه عقرب جبلي كبير، كان الرجل يرتعش، وجهه شاحب، والعرق يسيل منه، أعطوه بصلا وليمونا (ليقرقشها) كعلاج، لم يكن هناك مستشفى قريب، ولكني علمت وأنا في طريق العودة بعدها بثلاثة أسابيع أنه عاش، كانوا يحذروننا من أن نضع أرجلنا في الاحذية دون أن نفحصها. وصلنا سركمتو، وهي ككل القرى النوبية تمتد بحذاء النهر بشريط طويل من البيوت الواسعة ولا يتجاوز عرض القرية في الغالب بيتين أو ثلاثة، ثم شريط من الأرض الزراعية ،فالنهر في الغرب، الأرض تروى مباشرة من النهر فلا يوجد نظام للري خلافا لما هو حادث في مصر. إستقبلتنا شعارات مكتوبة على جدران البيوت، تقول: مأساة عبود لن تعود- لا بديل لأرض النوبة- القصاص لشهداء كاجبار، والمقصود رفض مشاريع الحكومة الساعية لأنشاء سدين على النيل عند دال وكاجبار، بالإضافة إلى السد الذي جرى إنشاؤه في مروى، ستغمر السدود المزمع إنشاؤها ما تبقى من أرض النوبة. في سركمتو نزلنا ضيوفا لدى السيد عماد أحمد عبدون حيث قابلنا الشاعر محمد مختار عبدون، وهو من الدعاة النوبيين الرافضين لعروبة أرض النوبة، دار بيننا حديث طويل وعلمنا منه أنه ذهب إلى الكونجرس الأمريكي بناءا على دعوة! وللحديث بقية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق