الثلاثاء، 12 أبريل 2011

يوميات مصرى فى أرض النوبة 3 ... بقلم / شوقى عقل


كنا قد وصلنا قرية "سركمتو"، على حوائط البيوت الطينية كانت الشعارات الرافضة لبناء سدي كاجبار ودال تستقبل الداخل إلى القرية مكتوبة بخط أسود عريض، رأيت شعارات مثيلة في بئر أمبيكول ضمن ملصقات المرشحين في الانتخابات السودانية، تحدثت إحداها عن ضحايا سقطوا في قرية كاجبار خلال صدام مع الأمن، كانوا يحتجون على قرار بناء السدود التي ستغمر ما تبقى من أرض النوبة، أطلق عليهم الدرك الرصاص فسقط أربع ضحايا، والعديد من الجرحى. نزلنا في ضيافة السيد عماد عبدون دون معرفة مسبقة وهو ما تكرر كثيرا فيما بعد في ظروف السفر، كان يدهمنا الليل ونحن في الطريق، أو لا نلحق (البنطون) أي العبّارة التي ستنقلنا إلى البر الغربي حيث الجزر المليئة بالآثار، فتفتح لنا البيوت مرحبة لنقضي ليلنا، وهناك قابلنا الشاعر محمد مختار عبدون، ودار بيننا حديث طويل ممتع، وهو رجل متحمس لنوبيته، واسع الإطلاع على الثقافة الشعبية النوبية، ويبدو أن صيته كشاعر شعبي نوبي، وكناشط في الدفاع عن حقوق أهل النوبة، كانا السبب في توجيه دعوة له لزيارة الكونجرس الأمريكي، وهو ما دهشنا له وأثار أستغرابنا، وحين سألناه كيف أتته الدعوة ونحن جالسون في مجاهل النوبة، مقطوعو الصلة بالعالم القريب، فما بالك بالكونجرس الأمريكي؟؟ لم يجب عن تساؤلنا، ولكني علمت فيما بعد أنه قضى وقتا طويلا مغتربا في المملكة السعودية ثم الولايات المتحدة، حيث عاد منها إلى النوبة، وطنه الذي أحبه وتغنى به في أشعاره، فمضينا في جلستنا وكان يشير باستمرار إلى كون أهل النوبة ليسوا عربا، وحين سألته عن موقفه من الغزو الأمريكي للعراق؟ وكنا جالسين وسط مجموعة من أهل القرية وهم كسائر أهل النوبة يحملون حسا وطنيا ودينيا عاليا، أجابني بأنه ضد الغزو، ومتضامن مع أهل العراق، ثم أضاف: أنسانيا! فنفى عن تضامنه شبهة العروبة، وهو على ما يبدو ما يحدث لبعض المثقفين النوبيين المتأسين لحال وطنهم، حين يجدون العون والدعم من العم سام بعد أن يأسوا أن يجدوه بين أبناء جلدتهم، فيسلكوا الطريق الأسهل المؤدي إلى اللاشيء، سوى زيارات إلى الكونجرس، قد تنتهي بأفغانستان أو صومال أخرى على أرضنا.خرجنا من الحديث في السياسة و(الزيارة) إلى الحديث عن تاريخ النوبة، أكد لنا عبدون خلاله تجذر الثقافة النوبية في التاريخ الأسلامي، وأن بلالا مؤذن الرسول ليس حبشيا بل هو نوبي، لأن أرض النوبة كان أسمها الحبشة قديما، وأن أسمه الحقيقي هو (بلّال) وأن أهل النوبة غنوا له قديما، ذاكرين أنه رجل يُعمل ذهنه وليس جسده، فقالوا:بلّال يا بلّالبلّال قال وسأل!وأن اسم مكة هو تحوير لكلمة نوبية قديمة هي بكا، حيث الـ "كا " تعني المقر. كاسم بلدة كويكا، وأن المسجد كلمة نوبية أوهيروغليفية قديمة أصلها "الميس" بمعنى المكان المقدس، كما "الميسلة "أو" المسلة".سألت الشاعر عبدون إن كانت المرأة النوبية ما زالت تحتفظ بمكانتها المميزة، التي كانت لها عبر تاريخها، فمن عادات أهل النوبة أن يورث ابن البنت دون الأبن، أو ابن الأخت، وهو ما أدركه بعض قبائل الغزاة، فصاهروا النوبيين، فانتقلت بالمصاهرة ملكية الأرض اليهم، وما لبثوا هم أنفسهم، وقد ذابوا في مجتمع له جذوره وتقاليده العريقة أن اكتسبوا عادات النوبيين فأصبحوا يورثوا الأرض هم أيضا لابن البنت! وكان الإبن يعرف باسم الأم إضافة لاسم الأب تكريما لها ولمكانتها، فأجابني بأن ذلك مازال يحدث في قرى النوبة، وله شخصيا، وللأسف لم يتسع الوقت لنستمع لأشعاره باللغة النوبية وهي لغة عالية الأيقاع الموسيقى، وهو كما علمت شاعر كبير، فكان في الأغلب سيصلنا ذلك المزيج بإيقاع حسن جميل، رغم جهلنا باللغة.وكانت محطتنا التالية بلدة صغيرة تدعى فركة، وهي بلدة جميلة قابلنا فيها رجلا عجوزا يدعى سليمان، بادر بأخذنا لمشاهدة الآثار، وكان سريع الخطو بما لايتناسب مع سنه، لعل هذا راجع للطبيعة الثرية ولهواء كان أثره واضحا علينا، إذ تضاعفت طاقتنا بفضله، وكان أثره واضحا على وجوهنا بعد أيام قلائل قضيناها هناك، فكأننا صغرنا بعد أول أسبوع قضيناه هناك عشر سنوات كاملة، نصعد التلال الصخرية ونظل طيلة النهار في حركة مستمرة عابرين النهر الصاخب، أو مستقلين (البيك اب) ...؟ بين القرى حتى الليل. في فركة شاهدت أجمل مشاهد أرض النوبة، بعد أن قطعنا حقولا مزروعة باللوبيا الخضراء الحلوة والترمس الأخضر المر، وصعدنا تلة طينية جافة، أنبسط أمامنا خليج صغير من المياه ينتهي بالصخور الجرانيتية الملونة، كانت المياه العذبة تتخلل الصخور والأعشاب والأشجار القصيرة المزهرة المحملة بالثمار تنمو من الفجوات، كان الطرف الآخر من الخليج يتصل بالنهر العريض، عبرنا الخليج في جزئه الضحل قافزين من صخرة لأخرى حتى وصلنا إلى سفح تلة صخرية صعدناها متتبعين خطى عم سليمان الذي كان يقصّ علينا وهو يتسلق التلة عن زيارته لمصر وكيف كاد أن يتوه في ميدان التحرير، حتى وصلنا لرأس التل، وفي الأسفل أمتد النهر عريضا سريعا مليئا بالصخب والحياة، وعلى جانبيه شكلت الأشجار الكثيفة خطا أخضر قائما على جدارين رأسيين من الطين المترسب، وبعيدا كانت جزر طينية كثيفة الأشجار وأخرى رملية جرداء تقطع التيار المتدفق. كان النهر منخفضا عن شاطئيه بحوإلى أربعة إلى خمسة أمتار، وفي موسم الفيضان تعلو المياه لتغمر الشواطيء وتذهب بعيدا في الأراضي المجاورة، لا ينجو منها إلا البيوت المبنية على الأراضي المرتفعة على الحدود الشرقية للقرى، وتتجدد خصوبة الأرض، وتغتسل من حملها لتعود عفية قادرة في دورتها الأبدية.في قرية مفركة قضينا ليلتنا بعد نهار شاق، في ضيافة خليل كله، وهو قريب لصديق أوصاه بنا، فكنا محل إكرامه، جاءنا بالعشاء الطازج فعلا، قال لنا: كل شيء من إنتاجنا، كان أجمل ما في الصينية الموضوعة أمامنا الخبز الساخن الخارج توا من الفرن، يدعى عيش جلاب، على الضوء الخافت للمصباح قص علينا خليل كله حكاية (الضل الميت).قال خليل كله: الظل الميت يحدث مرة كل سنة حين يمرض النيل وتأتي المياه البيضاء، تعرف الأرض أن المياه البيضاء تضرها، فلا تشربها ولا ترتوي منها، لأنها إن شربتها سيموت الشجر، ولايرمي الشجر ظله، إنها أيام الظل الميت!خرجت إلى ساحة المنزل ومنها إلى الطريق وكانت الظلمة حالكة، والنجوم تنير الظلال المحيطة، ظلال الأطلال، وظلال التلال الصخرية التي تفصل مفركة عن الصحراء، وظلال الأشجار، وظل باهت يسير خلفي، كانت أرض النوبة الشاسعة تمتد أمامي وخلفي وإلى جانبي، كانت التلال وصحراء النوبة الشاسعة مليئة بالباحثين عن الذهب، وتأتي الأخبار: فلان وجد عرقا كبيرا، وفلان لم يجد ذهبا ولكنه وجد أثارًا لا تقدر بمال، وعلى البعد تنتشر مزارع غريبة الشكل والهوية على ملايين الأفدنة، تروى بماء مجلوبة من النيل أو من المياه الجوفية، تمتد فوقها أذرع آلات ري عملاقة تدور وتدور لتروي نباتات غريبة لن يراها أو يتذوقها أحد، ستذهب إلى بلاد بعيدة، وحكايات عن حقول بترول لا تنضب، ذهب وبترول وسدود ومزارع عملاقة.كانت الظلال الميتة تحيط بي، وكل شيء حي مليئ بالعطاء والخصب، أرضا ونهرا وتاريخا وشعبا، ولم يكن هناك لكل هذا العطاء، إلا ظلالا ميتة.في الصباح ودعنا خليل كله وانطلقنا إلى جزيرة صاي، حيث قابلنا المرشح للانتخابات التي كانت قريبة، وحيث اندفعت في حوار سجّل علي وكان سببا في ما حدث لي من إيقاف وتحقيق في مكتب أمن الدولة في حلفا، وما تبعه، وللحديث بقية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق